على الملازمة، وقد عرفت عدم تماميّة الأمرين الذين تمسّك بهما المحقّقالخراساني رحمهالله لتأييده.
والفاعل المريد شيئاً في التكوين تتعلّق إرادته بإيجاد مقدّماته، ولازم ذلكأنّ الإرادة الآمريّة المتعلّقة بفعل تستلزم إرادة اُخرى متعلّقة بمقدّماته.
والحاصل: أنّ الفرق بين الفاعل والآمر أنّه لا مناص في الأوّل عن تعدّدالإرادة، لأنّ المفروض أنّه المباشر للأعمال برمّتها، فلا محالة تتعلّق الإرادة بكلّما يوجده بنفسه، وأمّا الآمر فيكفي في حصول غرضه بيان ما هو الموضوعلأمره وبعثه، بأن يأمر به ويبعث نحوه، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غيرخفيّ على المأمور، وعقله يرشده إلى لزوم إتيانها، فحينئذٍ لأيّ ملاك تنقدحإرادة اُخرى متعلّقة بالبعث إلى المقدّمات؟
ومنها التصديق بفائدة المراد، وهو موجود في إرادة البعث إلى ذي المقدّمة، لأنّفائدة البعث إليه هي التوصّل إلى المبعوث إليه، وأمّا البعث إلى المقدّمات فلفائدة فيه بعد حكم العقل بلزوم إتيانها، فلا تتوفّر مبادئ إرادته.
والحاصل: أنّ تعلّق الإرادة التشريعيّة المولويّة بالمقدّمة بعد لابدّيّتها العقليّةلغو لا يصدر من الحكيم.
إن قلت: فكيف انقدحت الإرادة التشريعيّة المولويّة بدخول السوق فيقول المولى: «ادخل السوق واشتر اللحم»؟
قلت: قولنا بكون الأمر في المثال مولويّاً إنّما هو بلحاظ وحدة السياق،حيث إنّ الأمر باشتراء اللحم يكون مولويّاً قطعاً، وإلاّ فالأمر بدخول السوقمع قطع النظر عن السياق إرشادي.
إن قلت: كونه إرشاديّاً أيضاً يستلزم اللغويّة كما أشرت إليه، لأنّ العبد عالمبكون دخول السوق مقدّمة لاشتراء اللحم، فما معنى الإرشاد إلى المعلوم؟!
قلت: الإرشاد إلى حكم العقل تارةً يكون لأجل جهل المخاطب بموضوعحكم العقل، واُخرى لأجل التذكّر، والأمر بدخول السوق في المثال المتقدّممن هذا القبيل.
ما أفاده الحسن البصري لإثبات الملازمة
الثالث: استدلّ أبو الحسن البصري على الملازمة بما هو كالأصل لغيره ممّذكره الأفاضل من الاستدلالات كما قال صاحب الكفاية.
وهو أنّه لو لم يجب المقدّمة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقي الواجب علىوجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلاّ خرج الواجب المطلق عن كونه واجبمطلقاً، فيكون الوضوء مثلاً كالوقت في كونه شرطاً لوجوب الصلاة
(صفحه390)
ووجودها كليهما(1).
ولابدّ لنا قبل المناقشة فيه من ذكر إصلاحين له ـ تبعاً للمحقّقالخراساني رحمهالله ـ لكي لا يكون بديهي البطلان:
1ـ أنّه لابدّ من أن يراد بقوله: «لجاز تركها» في الشرطيّة الاُولى عدم المنعالشرعي، لا الإباحة ولا الجواز بالمعنى الأعمّ، وإلاّ كانت الملازمة واضحةالبطلان، ضرورة أنّ عدم وجوب شيء لا يستلزم إباحته الشرعيّة، إذ يمكنأن يكون حينئذٍ محكوماً بحكم آخر غيرهما، أو لا يكون فيه حكم شرعيأصلاً، ولا يستلزم أيضاً جواز تركها بالمعنى الأعمّ، ضرورة أنّ الجواز بالمعنىالأعمّ إذا تعلّق بالفعل يكون أعمّ من الوجوب والندب والإباحة والكراهة،وإذا تعلّق بتركه يكون أعمّ من الحرمة والندب والإباحة والكراهة، مع أنّالمقدّمة يمكن أن تكون خالية من جميع الأحكام الشرعيّة التكليفيّة، فإنّ أحدالمتلازمين مثلاً لو كان واجباً لا يستلزم أن يكون ملازمه الآخر أيضاً كذلكأو محكوماً بحكم آخر. نعم، لا يمكن أن يكون حراماً، لأنّه تكليف بما ليطاق، وأمّا خلوّه عن جميع الأحكام فلا منع فيه.
فعلى هذا يمكن أن تكون المقدّمة مع كونها غير واجبة خاليةً عن سائرالأحكام الشرعيّة أيضاً.
والحاصل: أنّ المراد بجواز الترك في الشرطيّة الاُولى عدم المنع الشرعي.
2ـ أنّه لابدّ من أن يراد بقوله: «حينئذٍ» حين إذ تركت المقدّمة عن جواز،لا حين جاز تركها، وإلاّ فبمجرّد الجواز بدون الترك لا يكاد يتوهّم صدقالقضيّة الشرطيّة الثانية، ضرورة أنّ وجوب شيء لا يستلزم التكليف بما ليطاق بمجرّد جواز ترك مقدّمتها، بل المستلزم لذلك إنّما هو نفس تركها، حيث
ج2
إنّه لا يقدر حينئذٍ على الإتيان بذيها.
نقد كلام أبي الحسن البصري في المقام
ولابدّ قبل المناقشة في كلام أبي الحسن البصري من تقديم أمر وجداني،وهو أنّ العقل كما يحكم بوجوب إطاعة المولى، فلو خالف العبد أمره يتحقّقالعصيان ويستحقّ بذلك العقوبة والنيران، فكذلك يحكم بلزوم إتيان مقدّمةالواجب، فلو تركها يتحقّق العصيان بالنسبة إلى ذي المقدّمة ويستحقّ العقوبة.
هذا أمر يشهد به الوجدان وما خالف فيه أحد، حتّى من أنكر الملازمة فيالمقام.
إذا عرفت هذا فنقول:
إن أراد أبو الحسن البصري من جواز الترك في الشرطيّة الاُولى عدم المنعمنه شرعاً فقط ـ كما هو الحقّ ـ فهو لا يستلزم صدق إحدى الشرطيّتينالأخيرتين، لكي يلزم منه أحد المحذورين، لأنّا نختار بقاء الواجب علىوجوبه، وهو لا يستلزم التكليف بما لا يطاق بمجرّد ترك مقدّمته، لأنّ تركهوإن لم يكن ممنوعاً شرعاً، إلاّ أنّه كان ممنوعاً عقلاً، لما فيه من العصيانالمستتبع للعقاب، وبالجملة: إنّ الواجب باقٍ على وجوبه ولو تركت مقدّمته،لكن يتحقّق العصيان حينئذٍ، لكونه متمكِّناً من الإطاعة والإتيان به، وقداختار تركه بترك مقدّمته بسوء اختياره، مع حكم العقل بلزوم إتيانها.
وإن أراد به عدم المنع الشرعي والعقلي كليهما يلزم أحد المحذورين، إلاّ أنّالملازمة على هذا في الشرطيّة الاُولى ممنوعة، بداهة أنّه لو لم تجب المقدّمةشرعاً لا يلزم منه أن يكون تركها جائزاً شرعاً وعقلاً، بل يلزم منه جوازتركها شرعاً فقط، وإن كانت واجبةً عقلاً، وهذا واضح.