وذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى الاقتضاء بالدلالة الالتزاميّة بنحو اللزوم البيّنبالمعنى الأخصّ، واستدلّ عليه بأنّ نفس تصوّر الوجوب والحتم والإلزاميوجب تصوّر المنع من الترك والانتقال إليه، وذلك معنى اللازم البيّن بالمعنىالأخصّ(1).
وفيه أوّلاً: منع استلزام تصوّر الوجوب لتصوّر حرمة الترك، بل قد ينتقلالذهن من تصوّره إلى تصوّرها وقد لا ينتقل، وثانياً: أنّ استلزام تصوّرهلتصوّرها لا يفيده، لأنّ مجرّد انتقال الذهن من تصوّر الأمر بالشيء إلى تصوّرالنهي عن تركه لا يقتضي أن يصدر نهي من قبل المولى متعلّق بتركه.
وبعبارة اُخرى: لو أراد أنّ على المولى أن ينهي عن الترك بنهي مستقلّعقيب أمره بالفعل، ففيه: أنّه خلاف ما نجده في الشريعة، لعدم وجود النهيعن الترك في جلّ الواجبات.
ولا يجري هنا احتمال وحدة الحكم الذي كان يجري بناءً على القولبالعينيّة، لأنّ الالتزام يقتضي المغايرة بين اللازم والملزوم كما لا يخفى.
هل يقتضي إرادة الشيء إرادة ترك تركه أم لا؟
هذا كلّه بناءً على كون طرفي الاقتضاء هما الأمر والنهي كما هو ظاهرالعنوان، وأمّا لو اُريد الاقتضاء بين الإرادتين، فلو اُريد التكوينيّة منهما بمعنىأنّ كلّ من يريد فعل شيء يريد ترك تركه أيضاً، ففيه: أنّ الإرادة ومباديهتنقدح في نفس الفاعل بالنسبة إلى الفعل لا بالنسبة إلى ترك الترك، فإنّ منيريد أن يدخل السوق مثلاً يتصوّر الدخول في السوق أوّلاً، ثمّ يصدّق بفائدتهثمّ يتحقّق في نفسه سائر مبادئ الإرادة فيريده، وأمّا ترك تركه فلا يتصوّرهنوعاً حتّى تصل النوبة إلى سائر مبادئ الإرادة.
وإن اُريد التشريعيّة منهما ـ وهي المربوطة بالمقام ـ بمعنى أنّ المولى الآمرالذي تنقدح في نفسه إرادة البعث إلى شيء تنقدح أيضاً في نفسه إرادة الزجرعن ترك ذلك الشيء، ففيه: أنّ مبادئ الإرادة الثانية ليست بمتوفّرة، إذ لفائدة في الزجر عن الترك بعد البعث إلى الفعل كما لا يخفى، فأين التصديقبفائدة الزجر بعد تصوّره كي تنقدح في نفسه الإرادة المتعلّقة به؟
إن قلت: يمكن أن يكون فائدة الزجر عن الترك تأكيد البعث إلى الفعل.
قلت: التأكيد يقتضي تحقّق حكم واحد مؤكّد، مع أنّ القائل بالاقتضاءيقول بتحقّق حكمين، فالقول بالتأكيد ليس قولاً بالاقتضاء، على أنّ التأكيد لينحصر في الزجر عن الترك، بل يمكن بتكرار البعث إلى الفعل أيضاً.
والحاصل: أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، ولا الخاصّمن جهة مقدّميّة ترك الضدّ الآخر له.
الوجه الثاني: طريقة التلازم
ممّا استدلّ به على حرمة الضدّ الخاصّ طريقة التلازم، وهي أيضاً مركّبة
ج2
من ثلاثة اُمور:
الأوّل: أنّ كلّ ضدّ ملازم لعدم الضدّ الآخر، الثاني: أنّ المتلازمين محكومانبحكم واحد لا محالة، الثالث: أنّ الأمر بالشيء مقتضٍ للنهي عن ضدّه العامّ،والمراد من الضدّ العامّ نقيض المأمور به كما تقدّم.
فإذا وجبت الإزالة وجب ترك الصلاة، لكونه ملازماً لها، فحرم فعلالصلاة، لكونه نقيضاً لتركها(1).
نقد طريقة التلازم
وقد عرفت بطلان الأمر الثالث، فلا نطيل الكلام بتكراره.
ولكن لا بأس بالتكلّم حول الأمرين الأوّلين، وإن كان الدليل مردوداً بعدبطلان الأمر الثالث.
أمّا المقدّمة الاُولى: فلعلّ قائلاً يقول: لا يمكن إنكارها، لوضوح أنّ الإزالةملازمة لترك الصلاة، والبياض ملازم لعدم السواد.
وفيه: أنّ الملازمة حكم عقلي لابدّ له من ملاك، وملاك الملازمة بين شيئينإمّا كون أحدهما علّة للآخر، أو كونهما معلولين لعلّة واحدة، أو كون أحدهممصداقاً للآخر نحو زيد وإنسان.
وحينئذٍ لا يمكن الحكم بالملازمة لو جعل العدم موضوعاً للقضيّة، وقيل:«عدم أحد الضدّين ملازم للضدّ الآخر» لما عرفت من أنّ العدم بطلان محضلا حظّ له من الوجود، مع أنّ «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له»وكذلك لو جعل محمولاً وقيل: «وجود أحد الضدّين ملازم لترك الضدّ
- (1) كون الفعل نقيضاً للترك مبنيّ على كون نقيض الشيء إمّا رفعه أو كونه مرفوعاً به، لا خصوص رفعه، وإلكان نقيض الترك ترك الترك. منه مدّ ظلّه.
(صفحه426)
الآخر»، كما أنّ القاعدة أيضاً تقتضي تشكيل القضيّة بهذه الكيفيّة، لأنّ وجودأحدهما يستلزم ترك الآخر، دون العكس، لإمكان أن يترك كليهما، فتركأحدهما لا يستلزم فعل الآخر.
وموضوع القضيّة في هذا الفرض وإن كان أمراً وجوديّاً، فلا يناقش فيهمن جهة القاعدة الفرعيّة، إلاّ أنّ الحكم بالملازمة بلا ملاك.
لا يقال: الملاك موجود، وهو أنّ كلّ ضدّ مصداق لعدم الضدّ الآخر، فنقول:«الإزالة لا صلاة» و«البياض لا سواد» كما نقول: «زيد إنسان».
فإنّه يقال: العدم ليس بشيء لكي يكون الوجود مصداقاً له، فلايمكن حملهعلى الوجود، لأنّ الحمل حاكٍ عن الاتّحاد والهوهويّة بين الموضوع والمحمول،وحيث إنّ العدم بطلان محض فلا يمكن الحكم باتّحاده مع غيره، إذ لا يكاديتّحد الشيء مع لا شيء، فالقضايا المعدولة نحو «زيد لا قائم» و«الإزالة لصلاة» و«البياض لا سواد» لا واقع لها.
وأمّا المقدّمة الثانية: فاستدلّ لإثباتها بأنّ أحد المتلازمين لو كان واجبدون الآخر لكان محكوماً بأحد الأحكام الأربعة الاُخرى، فكان تركه جائزاً،لأنّ جواز الترك جامع غير الوجوب من الأحكام، ولو كان تركه جائزاً لكانترك الملازم الأوّل أيضاً جائزاً مع أنّه واجب فرضاً، وهذا خلف(1).
إن قلت: يمكن أن يكون ملازم الواجب خالياً من جميع الأحكام الخمسة.
قلت: هذا مخالف لما روى واتّفقوا عليه من أنّ للّه تبارك وتعالى في كلّواقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل.
وفيه أوّلاً: أنّ عنوان «الواقعة» لا تشمل عدم الضدّ الذي هو محلّ البحث في
- (1) هذا الدليل وإن كان يفيد الخصم في المقام على فرض تماميّته، إلاّ أنّه أخصّ من مدّعاه، لأنّه لا يجري إلفي الوجوب والحرمة، مع أنّ مدّعاه اتّحاد المتلازمين في جميع الأحكام الخمسة. منه مدّ ظلّه.
ج2
المقام، لأنّ العدم كما عرفت مكرّراً لا شيئيّة له حتّى تصدق عليه عنوان«الواقعة» فالرواية تختصّ بأفعال المكلّفين، ولا تعمّ التروك والأعدام، على أنّشمولها لها يستلزم أن يكون في ترك الواجب مثلاً مخالفة لحكمين: أحدهممتعلّق بفعله، والآخر بتركه، لصدق «الواقعة» على كلّ واحد منهما فرضاً،فكلّ منهما محكوم بحكم بمقتضى الرواية، وهل يمكن الالتزام بأنّ من تركالصلاة مثلاً وقع في مخالفة حكمين ويستحقّ عقوبتين؟!
وثانياً: أنّ الرواية مربوطة باللوح المحفوظ، أي لا واقعة إلاّ ولها حكم إلهيفي اللوح المحفوظ، فلا تدلّ على أنّ للّه سبحانه في كلّ واقعة حكماً فعليّاً، فلتنافي خلوّ بعض الواقعات عن الحكم الفعلي.
وثالثاً: أنّ أساس هذا الدليل مصادرة بالمطلوب، لأنّ الحكم بوجوب أحدالمتلازمين مع كون الملازم الآخر محكوماً بأحد الأحكام الأربعة الاُخرى ليوجب الخلف، إلاّ إذا قلنا بسراية جواز الترك من الملازم الثاني إلى الملازمالأوّل كما جاء ذلك في الدليل أيضاً، والحكم بسرايته منه إليه مبنيّ على اتّحادالمتلازمين في الحكم.
بل هذا أضعف من المدّعى(1)، لأنّه يقتضي اتّحاد المتلازمين في الجواز،والمدّعى اتّحادهما في الوجوب.
أضف إلى ذلك: أنّا نعلم بخلوّ بعض الوقائع عن الحكم، توضيحه: أنّالإباحة على نوعين: شرعيّة وعقليّة، والاُولى هي حكم الشارع بالإباحة فيمإذا كان ملاكها(2) موجوداً، والثانية هي حكم العقل بها فيما إذا لم يكن للشارع
- (1) أي ما يدّعيه الخصم في صدر هذا الدليل من أنّ أحد المتلازمين إذا كان واجباً فلابدّ من اتّصاف الملازمالآخر أيضاً بالوجوب. م ح ـ ى.
- (2) وملاك الإباحة الشرعيّة عبارة عن خلوّ الواقعة عن المصلحة والمفسدة كلتيهما، أو تساويهما فيها.منه مدّ ظلّه.