ج2
أوّل الأمر، سواء قلنا بكونه حقيقةً فيه أيضاً كما هو الحقّ، أم مجازاً.
بخلاف المقام الذي اُريد فيه من الدليل الأوّل الوجوب قطعاً، لكنّ الدليلالثاني ينسخه ويزيل امتداده، وبه يزول الجواز والرجحان اللذان كانا مناللوازم العقليّة للوجوب، فلا معنى للقول باقتضاء الجمع بين الدليلين بقاءالجواز أو الرجحان.
ثمّ إنّ بعضهم تمسّك لإثبات بقاء الجواز بالقسم الثالث من استصحابالكلّي، وهو ما إذا شكّ في بقاء الكلّي لأجل الشكّ في حدوث فرد منه مقارنلارتفاع فرده الآخر(1).
وفيه أوّلاً: أنّ جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّي مختلف فيه،فذهب بعضهم إلى جريانه مطلقاً، وبعض آخر إلى عدمه كذلك، وفصّل ثالثـ كالشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله ـ بين ما يتسامح في العرف، فيعدّون الفرداللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد، مثل ما لو علم السواد الشديد فيمحلّ وشكّ في تبدّله إلى البياض أو إلى سواد أضعف من الأوّل، فيستصحب،وبين غيره، فلايستصحب(2).
وثانياً: أنّ الجواز بالمعنى الأعمّ ليس حكماً شرعيّاً ولا موضوعاً ذا أثرشرعي، أمّا عدم كونه موضوعاً كذلك فواضح، وأمّا عدم كونه حكماً شرعيّفلما عرفت من كونه مدلولاً التزاميّاً، لا مطابقيّاً، ولا تضمنيّاً، والحاكم فيالدلالات الالتزاميّة هو العقل، ولو كان حكماً شرعيّاً لكان الشيء الواجبمثلاً محكوماً بحكمين شرعيّين: الوجوب والجواز، وهو ضروري البطلان.
- (1) وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ كلّي الجواز كان موجوداً عند وجود أحد أفراده، وهو الوجوب، ونشكّبعد النسخ في أنّه هل حدث فرد آخر منه ـ كالندب أو الكراهة ـ مقارناً لارتفاعه حتّى يبقى كلّي الجواز، أوتبدّل إلى الحرمة حتّى لا يبقى. م ح ـ ى.
- (2) فرائد الاُصول 3: 196.
(صفحه472)
والحاصل: أنّ بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب غير معقول ثبوتاً، وعلىفرض الإمكان فلا دليل عليه إثباتاً، فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّةالجارية في الشبهات البدويّة التحريميّة، ومقتضاها وإن كان البراءة والجواز، إلأنّه ليس حكماً شرعيّاً واقعيّاً، بل حكم ظاهري مجعول في مورد الشكّ فيالحكم الواقعي.
ج2
(صفحه474)
في الواجب التخييري
الفصل التاسع
في الواجب التخييري
الحقّ أنّ الوجوب التخييري قسم خاصّ من الوجوب في مقابل التعييني،وله أحكام مختصّة به، فكلّ واحد من طرفيه أو أطرافه واجب، لكن يجوزتركه بشرط الإتيان بعدله الآخر، ولو تركهما لا يستحقّ إلاّ عقوبة واحدة، كمأنّه لو أتى بهما لا يستحقّ إلاّ مثوبة واحدة.
البحث في رجوع الواجب التخييري إلى التعييني
لكنّ بعضهم أرجعه إلى الواجب التعييني، واختلفوا في توجيهه:
فقال بعض هؤلاء: إنّ الواجب واحد منهما مجهول عندنا معيّن عند اللّه، فإنكان ما أتى به العبد مطابقاً للواقع فبها ونِعم المطلوب، وإن كان مخالفاً له فهوأمرٌ مباح مسقط للواجب.
وقال بعض آخر: إنّ الواجب أحدهما لا بعينه، ويحتمل أن يكون مرادهأحدهما المفهومي، أو أحدهما المصداقي الذي يعبّر عنه بالفرد المردّد.
وذهب بعض ثالث إلى أنّ الواجب واقعاً هو ما اختاره المكلّف بعينه، فهويختلف باختلاف اختيار المكلّفين، بل باختلاف اختيار مكلّف واحد في وقائعمتعدّدة.
ج2
كلام صاحب الكفاية في المسألة
وفصّل المحقّق الخراساني رحمهالله بين ما إذا كان الأمر بأحد الشيئين بملاك أنّههناك غرض واحد(1) يقوم به كلّ واحد منهما بحيث إذا أتى بأحدهما حصل بهتمام الغرض، فيرجع إلى الواجب التعييني، لأنّ الواجب كان في الحقيقة هوالجامع بينهما، وكان التخيير بينهما بحسب الواقع عقليّاً لا شرعيّاً، وذلكلوضوح أنّ الواحد لا يكاد يصدر من اثنين بما هما اثنان ما لم يكن بينهمجامع في البين، لاعتبار نحو من السنخيّة بين العلّة والمعلول، وعليه فجعلهممتعلّقين للخطاب الشرعي كان لبيان أنّالواجب هو الجامع بين هذين الاثنين.
وبين ما إذا كان بملاك أنّه يكون في كلّ واحد منهما غرض مستقلّ، لكنّه إذحصل الغرض في أحدهما بإتيانه لا يكاد يحصل في الآخر، فلا يرجع إلىالواجب التعييني، لأنّ كلّ واحد منهما واجب بنحو من الوجوب يستكشفعنه تبعاته، من عدم جواز تركه إلاّ إلى الآخر، وترتّب الثواب على فعلالواحد منهما، والعقاب على تركهما، فهذا قسم خاصّ من الوجوب يسمّىواجباً تخييريّاً شرعيّاً في مقابل الواجب التعييني(2).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام
وفيه أوّلاً: أنّ القاعدة المقطوعة المسلّمة عند الحكماء هي أنّ «الواحد ليكاد يصدر منه إلاّ الواحد» ولذا اختلفوا في الصادر الأوّل الذي أوجده
- (1) وجلّ الواجبات التخييريّة من هذا القبيل. منه مدّ ظلّه.