(صفحه486)
في الواجب الكفائي
الفصل العاشر
في الواجب الكفائي
لا ريب في أنّ الواجب العيني ما يتوجّه إلى كلّ واحد من المكلّفين بنحوالاستقلال، فمن أتى به استحقّ المثوبة ومن تركه استحقّ العقوبة، ويقابلهالواجب الكفائي.
والمراد به ما إذا أتى به بعض المكلّفين استحقّ المثوبة وسقط عن الآخرين،فلايستحقّون العقوبة على تركه، ولو تركه الجميع لاستحقّ كلّ واحد عقوبةكاملة، كما أنّه لو أتى به أكثر من واحد فيما يقبل التعدّد ـ كصلاة الميّت(1) لاستحقّ كلّ منهم مثوبة كاملة، لا أنّ لجميعهم عقوبة واحدة موزّعة بينهم فيالأوّل، ومثوبة واحدة كذلك في الثاني.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في كيفيّة تصوير الواجب الكفائي احتمالات:
أحدها: أنّ من كلّف به هو مجموع المكلّفين من حيث المجموع.
وفيه: أنّه إن اُريد به جميعهم، بمعنى أنّ كلّ واحد منهم مكلّف بذلكالتكليف، فلا فرق بينه وبين الواجب العيني، على أنّ قيام الجميع به لا يمكن فيكثير من الواجبات الكفائيّة، كدفن الميّت، ضرورة أنّه لا يمكن أن يستقلّ كلّ
- (1) فيما إذا اشتغل جماعة في الصلاة على ميّت وختموها معاً، وأمّا إذا أتمّها بعضهم قبل الآخرين ففياتّصاف صلاة الآخرين بالوجوب إشكال. منه مدّ ظلّه.
ج2
منهم بدفنه.
وإن اُريد به صرف الوجود، في مقابل الوجود السعي الذي هو المكلّف فيالواجبات العينيّة، فهو راجع إلى قول المحقّق النائيني رحمهالله ، وسيأتي البحث فيه.
وإن اُريد به أنّ جميعهم مكلّفون به، لكن لا بنحو الاستقلال، بل بأن يعملكلّهم عملاً واحداً، بخلاف الواجب العيني الذي كلّف به كلّ واحد منهممستقلاًّ، ففيه أوّلاً: أنّه لم يلتزم به أحد، ضرورة أنّه ما أفتى فقيه بلزوم تعاونجميع المكلّفين في امتثال الواجب الكفائي، وثانياً: أنّ تعاون الجميع لا يمكن فيبعض الواجبات الكفائيّة، كدفن الميّت وقتل سابّ النبيّ صلىاللهعليهوآله .
الثاني: أنّ المكلّف في الواجب الكفائي هو واحدهم(1) الغير المعيّن(2).
وفيه: أنّه تناقض ظاهر، ضرورة أنّ مصداق الواحد ووجوده الخارجي(3)يساوق التعيّن والتشخّص، لما ثبت في الفلسفة من أنّ «الشيء ما لم يتشخّص لميوجد» فكيف يمكن أن يكون حقيقة الواحد ووجوده الخارجي غير معيّن؟!
الثالث: أنّ المكلّف هو الفرد المردّد من بينهم.
وهذا وإن لم يكن بمثابة ما قبله من حيث التناقض والاستحالة، لأنّ المرادبالفرد المردّد أنّ له نحواً من التعيّن وإن كان طرف هذا التعيّن وما يضاف إليهـ أعني المتعيّن ـ مردّداً بين الأفراد.
لكن يرد عليه أنّ تشخّص الإرادة إنّما هو بتشخّص المراد كما عرفت فيمبحث الواجب التخييري، ولا فرق في ذلك بين الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة،فلابدّ عند البعث من تشخّص الباعث والمبعوث والمبعوث إليه كلّها، لكونالبعث متقوّماً بجميعها، فلا يمكن تشخّصه بدون تشخّصها.
- (1) أي مصداق الواحد وحقيقته العينيّة الخارجيّة لا مفهومه. منه مدّ ظلّه.
- (2) أي غير المعيّن واقعاً لا المجهول عندنا. منه مدّ ظلّه.
- (3) بل الوجود الذهني أيضاً كذلك، لكنّ المراد من الواحد في المقام وجوده الخارجي. م ح ـ ى.
(صفحه488)
الرابع: أنّه لا فرق بين الواجب العيني والكفائي من حيث المكلّف، فالمكلّففي الثاني أيضاً جميع المسلمين بل جميع الناس، كالأوّل، وإنّما الفرق بينهما فيالمكلّف به، إذ الواجب العيني مقيّد بالمباشرة دون الكفائي، فإنّ المطلوب فيهحصوله مطلقاً ولو من غير مباشرة(1).
وفيه: أنّ تكليف الجميع بطبيعة لا يمكن أن يتحقّق منها إلاّ فرد واحدـ كدفن الميّت وقتل سابّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ أمر غير عقلائي إذا كان البعث بداعيالانبعاث كما هو المفروض في المقام، بل وكذلك فيما إذا أمكن تحقّق الأكثر منفرد واحد لكنّ المطلوب وما له دخل في غرض المولى ليس إلاّ واحداً منها،كالصلاة على الميّت، فإنّها وإن تقبل التعدّد إلاّ أنّ واحدة منه واجبة ومحصّلةللغرض، والباقي وإن كان راجحاً إلاّ أنّه ليس دخيلاً في حصول الغرض.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
الخامس: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ المكلّف في الواجب الكفائيصرف وجوده الذي يمكن أن يتحقّق في ضمن فرد من المكلّفين أو أكثر، بلفي ضمن الجميع أيضاً، وصرف الوجود يقابله الوجود المطلق الذي يعبّر عنهبالوجود الساري أو السعيّ، وهو مختصّ بالواجبات العينيّة(2).
وفيه: ما في سابقه، لأنّ أحد مصاديق صرف الوجود هو الوجود في ضمنجميع الأفراد كما عرفت، ولا يعقل أن يبعث المولى جميع المكلّفين بداعي
- (1) وربما يؤيّد هذا الاحتمال بما قيل من أنّ مقتضى الإطلاق هو الكفائيّة، حيث يعلم منه أنّ المقيّد هوالواجب العيني دون الكفائي، لكن يرد عليه أنّ بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ ذهب إلى العكس، وهوأنّ الواجب العيني مطلق والكفائي مقيّد بعدم إتيان الغير إيّاه، نعم، فرّع على هذا أنّ إطلاق الصيغة عندالدوران بين العينيّة والكفائيّة يقتضي العينيّة، ونحن ناقشنا في هذا التفريع في بعض مباحث صيغة الأمر.منه مدّ ظلّه.
- (2) أجود التقريرات 1: 271.
ج2
الانبعاث إلى طبيعة لا يمكن أن يتحقّق إلاّ فرد واحد منها، أو لايكون ما زادعليه دخيلاً في الغرض.
بيان ما هو الحقّ في تصوير الواجب الكفائي
فمقتضى التحقيق في القسمين المتقدّمين(1) من الواجب الكفائيأن يقال: حيث إنّ للمولى غرضاً واحداً يحصل بفعل فرد واحد منالمكلّفين فله أن يأمر كلّهم عاطفاً بلفظة «أو» ونحوها، فيقول: «تجبعلى زيد أو عمرو أو بكر أو... الصلاة على الميّت» وكذلك في مثل قتلسابّ النبيّ صلىاللهعليهوآله ودفن الميّت، فالواجب الكفائي سنخ خاصّ من الواجب،كالتخييري، إلاّ أنّ التخيير والخصوصيّة هاهنا في المكلّف وهناك فيالمكلّف به.
ويمكن أيضاً أن يفرّق بين الواجب العيني وهذين القسمين من الكفائي بمذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من كون التكليف في الواجب العيني مطلقاً وفيالكفائي مقيّداً بعدم إتيان الغير بالواجب، إذ يمكن أن يقال بصحّة نفس هذالكلام وإن كان ما استنتج منه من اقتضاء إطلاق صيغة الأمر كون(2)الوجوب عينيّاً مردوداً(3) كما عرفت في محلّه.
وعليه فكلّ شخص مكلّف بالإتيان بالواجب الكفائي إن لم يأت بهالآخرون، فكأنّ المولى قال: «يا زيد ادفن الميّت إن لم يدفنه غيرك».
نعم، يمكن تصوير قسم ثالث للواجب الكفائي بما ذهب إليه المحقّق
- (1) وهما ما لا يمكن تحقّق أكثر من فرد واحد منه، وما يمكن ولكن لا يدخل في تحصيل الغرض إلاّ واحدمنه. م ح ـ ى.
- (2) مفعول «اقتضاء». م ح ـ ى.
(صفحه490)
النائيني رحمهالله ، وهو ما إذا كان للمولى غرض واحد يحصل بفعل الكلّ أو البعض؛بحيث إن أتى به فرد واحد كان هو المؤثّر في الغرض، وإن أتى به عشرةأشخاص أو جميع المكلّفين كان عمل كلّ واحد منهم مؤثّراً في حصوله، وهذالقسم وإن لمنجد له مثالاً في الفقه، إلاّ أنّه قابل للتصوّر، ويكون قسماً منالواجب الكفائي، ويجري فيه ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ المكلّف فيالواجب الكفائي صرف الوجود الذي يتحقّق في ضمن فرد واحد أو أكثر بلالجميع.
إن قلت: كيف يمكن أن يكون المكلّف في هذا القسم من الواجب الكفائيصرف الوجود وفي القسمين الأوّلين كلّ واحد منهم بنحو التخيير أو تقييدالتكليف؟!
قلت: لا ضير فيه، إذ لا دليل على جريان جميع الأقسام على وتيرة واحدة،على أنّ هذا القسم الأخير مجرّد تصوير ولا مصداق له في الفقه كما عرفت،فالواجبات الشرعيّة الكفائيّة الموجودة في الفقه على نسق واحد.
هذا تمام الكلام في الواجب الكفائي.