(صفحه60)
في دلالة صيغة الأمر على الوجوب
المبحث الثاني: فيما هي حقيقة فيه
اختلفوا في أنّ الصيغة حقيقة في خصوص الوجوب، أو في الأعمّ منه ومنالندب بنحو الاشتراك اللفظي أو المعنوي على أقوال:
وقبل الخوض في المسألة لا بأس بذكر اُمور مقدّمةً:
1ـ قد عرفت(1) أنّ اختلاف الوجوب والندب في شدّة الطلب وضعفه،فاعلم الآن أنّهما قسمان من البعث والتحريك الاعتباري، لا من الطلب، لمعرفت من أنّ الصيغة موضوعة لإنشائهما، لا لإنشائه، فما ذكرنا هناك كانمبنيّاً على مسلك المشهور من كون المنشأ بالصيغة هو الطلب، وإلاّ فالحقّ فيالتعبير أن يقال: اختلافهما في شدّة البعث والتحريك وضعفهما، وإنّما كانعبارتنا هناك ملائمة لمذهب المشهور، لتوقّف التعبير بالبعث والتحريك علىإثبات أنّ الصيغة وضعت لإنشاء البعث والتحريك الاعتباريّين، وهذا لم يكنمفروغاً عنه هناك، فاضطررنا إلى التعبير المناسب لمسلك المشهور.
2ـ لا إشكال في اتّصاف البعث والتحريك الواقعيّين بالشدّة والضعف، وأمّالإرادة فربما يستظهر من تفسيرها بالشوق المؤكّد المستتبع لتحرّك العضلاتنحو المراد كما في الكفاية عدم اتّصافها بهما، مع أنّه خلاف الواقع، ألا ترى أنّكإذا أردت إنقاذ الغريق من البحر كان إلقاء نفسك فيه مسبوقاً بإرادة شديدة،
ج2
وإذا أردت السباحة كان الإلقاء مسبوقاً بإرادة ضعيفة؟
اللّهمّ إلاّ أن يكون للشوق المؤكّد مراتب يكون في بعضها نفس التأكّد وفيبعضها كمال التأكّد، وعليه فلا إشكال في تفسير الإرادة به.
والكاشف عن شدّة الإرادة وضعفها تارةً هو الأعمال المترتّبة عليها،فخروج الإنسان عن الدار مثلاً سريعاً عرياناً مضطرباً كما في موارد الزلزلةكاشف عن تعلّق الإرادة الشديدة بالخروج، وخروجه عنها بطيئاً مطمئنّكاشف عن تعلّق الإرادة الضعيفة به، واُخرى هو عللها المكوّنة لها التي أهمّهدرك المريد أهمّيّة المراد، فإذا كان درك المريد لعظمة المراد قويّاً كان إرادته لهشديدة، وإذا كان ضعيفاً كانت ضعيفة، فحن نصلّي، والأئمّة عليهمالسلام أيضاً كانويصلّون، لكن لا ريب في أنّ إرادتهم للصلاة كانت أشدّ من إرادتنا، لأنّإدراكهم لعظمتها كان أقوى من إدراكنا.
فالكاشف أمران: عمل المريد، ومقدار درك عظمة المراد(1).
3ـ الأفعال الاختياريّة كلّها مسبوقة بالإرادة ومباديها بحكم العقل،والإرادة مخلوقة نفس الإنسان، فإنّ اللّه سبحانه أودع في نفس الإنسان قوّةخلاّقة تخلق الإرادة قبل كلّ فعل اختياري، ومنه التكلّم، فالمتكلّم يريد ـ قبلصدور كلّ جملة ـ لفظ الموضوع والمحمول وهيئة الجملة ومعنى كلّ واحد منهذه الاُمور الثلاثة، ففي كلّ جملة إرادات ستّة مخلوقة لنفس المتكلّم، ولكلّ
- (1) إذا انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بذكر أمر إجمالاً حول العصمة:
وهو أنّ العصمة تتحقّق لا محالة للإنسان إذا أدرك واقعيّة المعاصي وعظم خطرها، وبعض مراتبالعصمة متحقّقة لنا أيضاً، ألا ترى أنّه لا يمكن لعاقل أن يكشف عورته بمرأى الناس ومنظرهم مع كونهمختاراً فيه، وذلك لأنّه أدرك عظمة قبحه، والمعصومون عليهمالسلام حيث أدركوا عظمة قبح جميع المعاصي لميمكن لهم ارتكابها، ومع ذلك لم يكونوا مسلوبي الاختيار مكرهين على الترك، ولو كنّا نحن أيضمدركين عظمة قبحها كما أدركوها لصرنا معصومين، فصدور الغيبة التي هي أشدّ من الزنا منّا دونهم ناشٍعن عدم إدراكنا قبحها العظيم وإدراكهم ذلك. منه مدّ ظلّه.
(صفحه62)
إرادة مبادٍ مخصوصة بها، وإن كنّا نتخيّل صدور الألفاظ وإلقاء معانيها من قبلالمتكلّم من غير إرادة، وعلى هذا فصدور صيغة «افعل» أيضاً يكون مسبوقبإرادة الآمر، كسائر الأفعال الاختياريّة.
أدلّة القول بظهور الصيغة في الوجوب
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّه قد استدلّ لدلالة الصيغة على خصوصالوجوب باُمور:
الأوّل: التبادر، كما قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا يبعد تبادر الوجوب عنداستعمالها بلا قرينة(1).
الثاني: الانصراف، بمعنى أنّ الصيغة وإن وضعت للأعمّ، إلاّ أنّها لكثرةالاستعمال في الوجوب منصرفة إليه. هذا ما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله فيالمبحث الرابع من الكفاية(2).
الثالث: قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، فإنّ الصيغة وإن وضعت للأعمّإلاّ أنّ المولى إذا استعملها بلا قيد وقرينة وكان في مقام البيان كانت ظاهرة فيالوجوب، فإنّ الندب لنقصانه يحتاج إلى تقييد وتحديد، بخلاف الوجوب الذيهو طلب كامل. وهذا ممّا أفاده المحقّق العراقي رحمهالله لإثبات ظهور صيغة الأمر فيالوجوب(3)، كما كان أفاده أيضاً لإثبات ظهور المادّة فيه.
وسبقه إلى ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله في المبحث الرابع من الكفاية(4).
الرابع: أنّ صدور الصيغة كاشف عند العقلاء عن الإرادة الحتميّة القائمة
- (3) نهاية الأفكار 1 و 2: 179.
ج2
بنفس المتكلّم، فلا يرضى المتكلّم بترك المأمور به.
الخامس: أنّ العقل والعقلاء يحكمان بأنّ صدور الصيغة عن المولى حجّةعلى العبد حتّى يظهر خلافه، وهذا معنى ظهورها في الوجوب.
البحث حول أدلّة ظهور الصيغة في الوجوب
أمّا الدليل الأوّل، وهو التبادر فقد ناقش فيه سيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام قدسسره بكلام موجز بل ناقص على ما في تقريرات بحثه، فلابدّ لتوضيحمرامه من ذكر أمر، وهو أنّ الحروف ـ سواء كانت حاكية، مثل «في» حيثإنّها تحكي عن الظرفيّة الخارجيّة، أو إيجاديّة، مثل حروف القسم والنداء،حيث إنّ كلاًّ منهما يوجد بحروفه ـ موضوعة لمعانيها بالوضع العامّ والموضوعله الخاصّ عند المشهور، فإنّ الواضع تصوّر مفهوم «الظرفيّة» ومفهوم «النداء»ثمّ وضع كلمتي «في» و«يا» لمصاديق هذين المفهومين وأفرادهما الخارجيّة.
وحيث إنّ للهيئات معاني حرفيّة، لافتقارها إلى الطرفين كالحروف يكونالوضع فيها أيضاً عامّاً والموضوع له خاصّاً عند المشهور، سواء في ذلكالهيئات الحاكية، كهيئة الماضي والمضارع، والإيجاديّة، كهيئة الأمر، فالواضععند وضعه صيغة الأمر تصوّر مفهوم البعث والتحريك الاعتباري، ثمّ وضعهلمصاديقه الخارجيّة، لا لهذا المفهوم الكلّي المتصوّر.
إذا عرفت هذا فلنشرع في توضيح كلام الإمام قدسسره وهو يرجع إلى استحالةالتبادر ثبوتاً على بعض التقادير وإلى عدم الدليل على إثباته على بعضهالآخر، فإنّه قال:
لو كانت الصيغة موضوعة(1) للوجوب لكان «الإرادة الحتميّة» دخيلة في
- (1) التعبير بالوضع بدل التبادر إنّما هو لأجل كون التبادر كاشفاً عن الوضع. منه مدّ ظلّه.
(صفحه64)
معناها، ولا يمكن تقييد البعث والتحريك الاعتباري الخارجي بمفهوم الإرادةالحتميّة، لاستحالة تقييد الجزئي بالكلّي، ولا بحقيقتها القائمة بنفس الآمر، لأنّالبعث والتحريك معلول لحقيقة الإرادة، فهو متأخّر عنها رتبةً، فلو كان مقيّدبها للزم كون المتقدّم متأخّراً أو المتأخّر متقدّماً، وكلاهما يمتنعان.
نعم، هاهنا تصوير آخر، وهو أنّه قد مرّ في البحث عن معاني الحروف أنّهلا يمكن تصوير جامع حقيقي بين معانيها من غير فرق بين الحاكياتوالإيجاديّات، إذ الجامع الحرفي لابدّ وأن يكون ربطاً بالحمل الشائع، وإلصار جامعاً اسميّاً، وما هو ربط كذلك يصير أمراً مشخّصاً لا يقبل الجامعيّة،فالجامع الذي تصوّره الواضع عند وضع الحروف هو جامع اسمي عرضي،فتصوّر عند وضع كلمة «من» مفهوم «الابتداء» ثمّ وضعها لمصاديق هذالمفهوم وأفراده الخارجيّة.
وعليه وإن كان لا يمكن تصوير جامع حقيقي بين أفراد البعث الناشئ عنالإرادة الحتميّة، إلاّ أنّه لا مانع من تصوير جامع اسمي عرضي بينها، كالبعثالناشئ من الإرادة الحتميّة، ثمّ توضع الهيئة بإزاء مصاديقه من باب عمومالوضع وخصوص الموضوع له من غير تقييد(1).
وهذا التصوير وإن لم يكن مستحيلاً، إلاّ أنّ التبادر على خلافه، فإنّالمتفاهم من الهيئة لدى العرف هو البعث والإغراء، لا البعث الخاصّ الناشئعن الإرادة الحتميّة.
وبالجملة: منشأ التبادر هو الوضع، والوضع لخصوص الوجوب يتصوّر
- (1) أي لا يكون الموضوع له ـ وهو أفراد البعث ومصاديقه الخارجيّة ـ مقيّداً حتّى يلزم أحد المحذورين، بلالمقيّد مفهوم البعث الذي هو جامع اسمي بينها، والقيد أيضاً مفهوم الإرادة، فهو من قبيل تقييد كلّي بكلّيآخر، ولا محذور فيه أصلاً. منه مدّ ظلّه.