ج2
نعم، لو كان الأمر دائراً بين الشرطيّة أو الجزئيّة وبين المانعيّة ولم يقبلالمأمور به التكرار، كالصوم، يكون داخلاً في محلّ النزاع، لأنّه لو أتى به بدونذلك الشيء المشكوك ثمّ تبيّن كونه جزءً أو شرطاً، أو معه ثمّ تبيّن كونه مانعفالبحث يقع في كونه مجزياً عن الواقع أم لا؟
والحقّ عدم الإجزاء، لأنّ العقل الذي هو حاكم بالتخيير(1) يحكم به فيالدوران بين المحذورين بملاك أنّ المكلّف معذور حينئذٍ لو وقع بسبب فعله أوتركه في مخالفة الواقع، فليس للشارع أن يعاقبه بها، وأمّا وجوب الإعادةوالقضاء بعد انكشاف الخلاف فلا يرتبط بحكم العقل أصلاً، لا إثباتاً ولا نفياً،كما قلنا في البراءة العقليّة، والقاعدة تقتضي وجوبهما، لعدم إتيانه بما كان واجبعليه واقعاً.
قضيّة الاستصحاب في مسألة الإجزاء
وأمّا الاستصحاب فمقتضى القاعدة فيه هو الإجزاء، فإنّه أصل شرعيمحض، ومدركه قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ»(2) المستفاد من الأخبار.
واختلفوا في معناه، فقيل: المراد به تنزيل الشكّ المسبوق باليقين منزلته،وجعل الشاكّ متيقّناً تعبّداً.
وقيل: المراد تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن، يعني الحكم بوجوب ترتيبآثاره عليه.
- (1) وأمّا التخييرات الفقهيّة، كالتخيير بين العتق والصيام والإطعام لمن أفطر في شهر رمضان فهي وإن كانتشرعيّة، إلاّ أنّها تخييرات في الحكم الواقعي، وليست أصلاً في مورد الشكّ فيه كما لا يخفى، فأصالةالتخيير ليست إلاّ أصلاً عقليّاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) ورد هذا المضمون في روايات، راجع وسائل الشيعة ج1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبوابنواقض الوضوء، الحديث 1، و ج 3: 477، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.م ح ـ ى.
(صفحه220)
وكيف كان، فدليل الاستصحاب حاكم على أدلّة الأحكام الواقعيّة، مثلدليل لزوم طهارة الثوب والبدن في الصلاة، ودليل كون الوضوء شرطاً لها،فإنّهما وإن كانا ظاهرين في كون الشرط خصوص الطهارة الواقعيّة والوضوءالواقعي، إلاّ أنّ قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» حاكم عليهما موسّعلدائرتهما، لأنّه دالّ على أنّ مدلولهما أعمّ من الطهارة والوضوء الواقعيّينوالظاهريّين، فإذا صلّينا مع طهارة الثوب الاستصحابيّة ثمّ انكشف وقوعها فيالثوب النجس، أو مع الوضوء الاستصحابي ثمّ انكشف وقوعها في الحدثكانت مجزية؛ لعدم خلوّها من الشرط، فإنّ الطهارة والوضوء الظاهريّينشرط واقعي للصلاة بمقتضى الحكومة كالواقعيّين كما عرفت في أصالة الطهارةأيضاً.
مقتضى قاعدة التجاوز والفراغ في المقام
وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ(1) فلابدّ من ذكر مقدّمة قبل بيان الحقّ فيها:
وهي أنّهم اختلفوا في كونها قاعدة شرعيّة تأسيسيّة أو عقلائيّة أمضاهالشارع بمقتضى الأخبار.
وعلى الثاني اختلفوا في أنّها هل هي من الأمارات الكاشفة عندهم عنالواقع، كخبر الواحد، أو أصل عملي تعبّدي، كما احتمل أو قيل في أصالةالحقيقة: إنّها أصل تعبّدي عقلائي، خلافاً للذين قالوا بأنّ حجّيّتها من بابأصالة الظهور.
والحقّ أنّها ليست قاعدة عقلائيّة، ويتّضح ذلك لمن راجع سيرتهم في
- (1) اختلفوا فيهما، فذهب بعضهم إلى كونهما قاعدتين مستقلّتين، فقاعدة التجاوز تختصّ بأثناء العمل،وقاعدة الفراغ بما بعده، وذهب بعضهم كالإمام قدسسره بكون الثانية شعبة من الاُولى، فهما قاعدة واحدة،ولكن هذا الاختلاف لا يؤثّر فيما نحن بصدده في مبحث الإجزاء. منه مدّ ظلّه.
ج2
الاُمور المهمّة(1)، وفي تركيب المعاجين وتأسيس الأبنية، فإنّهم إذا شكّوا فيإدخال جزء لازم في معجون، أو في إدخال شيء مهمّ في جدار البناءلا يعتقدون بعدم الاعتناء به بمجرّد التجاوز عن محلّه أو الفراغ من العمل.
ولو سلّمنا كونها قاعدة عقلائيّة فلا تدخل في محلّ النزاع، إذ لا ريب في أنّالعقلاء بعد أن يلتفتوا على خلوّ عملهم من جزء مهمّ يفعلونه ثانيةً مع ذلكالجزء بلا ريب، ولا يتصوّر أن يشكّ أحد في ذلك كي يتنازع فيه.
وبالجملة: قاعدة التجاوز والفراغ قاعدة شرعيّة لا عقلائيّة.
ثمّ قيل: يظهر من بعض الأخبار أماريّتها، كقوله عليهالسلام : «هو حين يتوضّأذكر منه حين يشكّ»(2) فإنّه ظاهر في أنّ علّة عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغأذكريّته في حال التوضّي، ولا ريب في أنّ للذكر والأذكريّة جهة الكشفوالطريقيّة.
وربما يقال: يظهر من بعضها الآخر كونها أصلاً، كقوله عليهالسلام في مورد الشكّفي الركوع بعد التجاوز عن محلّه: «بلى قد ركعت»(3) ضرورة أنّ مفاده «ابنعلى أنّك قد ركعت» إذ لا يحتمل أن يكون الإمام عليهالسلام بصدد الإخبار عمّا فعلهالسائل واقعاً.
وكيف كان، فلا إشكال في تقدّم القاعدة على دليل الاستصحاب حكومةعليه لو كانت أمارة، وتخصيصاً له لو كانت أصلاً شرعيّاً.
توضيح ذلك: أنّ المخصِّص والمخصَّص لابدّ من أن يكونا في رتبة واحدة،بخلاف الحاكم والمحكوم، فإنّ الحاكم متقدِّم على المحكوم، فلو كانت قاعدةالتجاوز أصلاً لكانت مخصِّصة للاستصحاب، لاتّحاد رتبتهما، ولو كانت أمارةً
- (1) أي في الاُمور الواجبة التحقّق عندهم لا في الاُمور المستحبّة. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 1: 471، كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.
- (3) وسائل الشيعة 6: 317، كتب الصلاة، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3.
(صفحه222)
لكانت حاكمةً عليه، لتقدّمها عليه رتبةً(1).
إذا عرفت هذا فاعلم أنّها تقتضي(2) الأجزاء لو كانت أصلاً، ولا تقتضيه لوكانت أمارة.
توضيح ذلك: أنّها حاكمة على أدلّة(3) الأجزاء والشرائط على الأوّل، وإللزم لغويّتها كما قلنا في سائر الاُصول الشرعيّة، بخلاف ما لو كانت أمارة، فإنّهعلى هذا كاشفة عن تحقّق الجزء والشرط في الواقع، فهي بمنزلة الصغرى،وأدلّة الأجزاء والشرائط بمنزلة الكبرى الكلّيّة، من دون أن توسّع دائرتها،فبعد انكشاف الخلاف وظهور عدم كاشفيّتها تجب الإعادة أو القضاء(4)، وهذهو السرّ في اقتضاء الاُصول الشرعيّة الإجزاء دون الأمارات والقطع.
هذا تمام الكلام في قاعدة التجاوز والفراغ.
بقيت مسألتان اُخريان لا بأس بالإشارة إلى مقتضاهما:
حول الإجزاء في موارد قاعدة الشكّ بعد الوقت
الاُولى: قاعدة البناء على الإتيان بالعمل عند الشكّ فيه بعد الوقت.
ولا ريب في خروجها عن النزاع؛ لظهور أنّه لم يأت بعمل أصلاً على فرض
- (1) حيث إنّها متكفّلة لبيان الحكم الواقعي، والاستصحاب متكفِّل لبيان الحكم الظاهري في مورد الشكّ فيالواقع، فكان متأخّراً عنها برتبتين. م ح ـ ى.
- (2) ولا فرق في ذلك بين أن تكون قاعدة واحدة أو قاعدتين بجعل قاعدة الفراغ مستقلّةً. منه مدّ ظلّه.
- (3) فإنّ دليل جزئيّة الركوع للصلاة مثلاً ظاهر في جزئيّة الركوع الواقعي فقط، ولكن قاعدة التجاوز حاكمةعليه وموسّعة لدائرته، بجعل الركوع الظاهري أيضاً جزءً لها، فإذا شككنا في الإتيان بالركوع بعد التجاوزعن محلّه وحكمنا بمقتضى قاعدة التجاوز بتحقّقه ثمّ انكشف الخلاف صحّت الصلاة ـ بمقتضىالقاعدة، مع قطع النظر عن حديث «لا تعاد» ـ لكونها مشتملةً على الجزء واقعاً، لأنّ الجزء الواقعي أعمّمن الركوع الواقعي والظاهري بمقتضى حكومة قاعدة التجاوز على دليل جزئيّة الركوع. منه مدّ ظلّه.
- (4) مثلاً دليل جزئيّة الركوع للصلاة ظاهر في كون الركوع الواقعي جزءً لها، وقاعدة التجاوز بناءً علىأماريّتها كاشفة عن تحقّق الركوع الواقعي بعد التجاوز عن محلّه، فإذا انكشف الخلاف تبيّن كون الصلاةفاقدة لجزئها، فتجب الإعادة أو القضاء. م ح ـ ى.
ج2
انكشاف الخلاف فيما بعد حتّى يبحث في كونه مجزياً أم لا.
فقاعدة الشكّ بعد الوقت قاعدة تسهيليّة لا تقتضي إلاّ كون المكلّفمعذوراً ما لم ينكشف الخلاف.
مقتضى أصالة الصحّة في عمل الغير(1) في المقام
الثانية: أنّ الإنسان إذا شكّ في صحّة عمل الغير وفساده، كما إذا شكّ في أنّالنائب الذي استنابه عنه أو عن مورّثه للحجّ مثلاً هل أوجده صحيحاً أوفاسداً وأجرى أصالة الصحّة في عمله ثمّ انكشف الخلاف فهل يكون مجزيأم لا؟
الحقّ أنّها لا تقتضي الإجزاء، لأنّ حجّيّتها إن كانت بملاك ظهور عملالمسلم في الصحيح منه كانت أمارةً، إذ ظاهر الحال يكون من الأماراتكظاهر المقال، وقد عرفت أنّ الأمارات لا تقتضي الإجزاء، وإن كانت حجّيّتهباستناد قوله عليهالسلام : «ضع أمر أخيك على أحسنه(2)»(3) فهي وإن كانت أصلشرعيّاً مجعولاً للشاكّ، إلاّ أنّه يختصّ بما إذا كان عمل الأخ مرتبطاً بذلكالشاكّ، كما في موارد الاستنابة، وإلاّ فلا معنى لأن نُجري أصالة الصحّة فيأعماله التي لا ترتبط بنا أصلاً كصلواته اليوميّة.
وظاهر هذه الرواية وجوب حمل عمل النائب المسلم على الصحيح من
- (1) وأمّا إجراء المكلّف أصالة الصحّة في عمل نفسه فهو شعبة من قاعدة الفراغ، ثمّ إنّ أصالة الصحّة فيعمل الغير وإن كانت تعمّ المعاملات أيضاً، إلاّ أنّها لا ترتبط ببحث الإجزاء، ضرورة أنّا لو شككنا في أنّزيداً هل تملّك داره بعقد صحيح أم لا، فأجرينا أصالة الصحّة في عمله واشتريناها منه، ثمّ انكشف فسادالعقد الذي تملّكها به فلا يجري فيه النزاع في كون أصالة الصحّة مقتضية للإجزاء أم لا كما لا يخفى،فمورد أصالة الصحّة المربوط بالمقام ما إذا استنبنا شخصاً لعمل عبادي، وعلمنا أنّه فعله، لكن شككنا فيأنّه هل فعله صحيحاً كي يوجب براءة ذمّتنا أم فاسداً كي لا يوجب؟ منه مدّ ظلّه.
- (2) كلمة «أحسن» هاهنا لا تفيد التفضيل، بل هي بمعنى كون عمله حسناً صحيحاً. منه مدّ ظلّه.
- (3) وسائل الشيعة 12: 302، كتاب الحجّ، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.