ج2
والنواهي وإن تعلّقت ظاهراً بالطبائع، إلاّ أنّها في الواقع متعلّقة بوجوداتها،لعدم حصول الغرض إلاّ بها.
وفيه أوّلاً: أنّك قد عرفت أنّ النزاع مستقلّ عن مسألة أصالة الوجودوالماهيّة، مع أنّ صحّة هذا الوجه مبنيّة على القول بأصالة الوجود، وإلفللقائل بأصالة الماهيّة أن يعكس الأمر ويقول: إنّ الماهيّة هي محصّلة لغرضالمولى، والآثار المترقّبة من المأمور به لها، لا للوجود الذي هو أمر اعتباري.
وثانياً: أنّهم لو أرادوا تعلّق الأوامر والنواهي بالوجود الذهني الذي هومفهوم كلّي للوجود فلا وجه للعدول من «الطبيعة» إليه، ضرورة أنّه أيضاً ليحصّل غرض المولى، ولا يترتّب عليه الآثار، وإن أرادوا تعلّقها بالوجودالخارجي فهو غير معقول، لأنّ الأحكام بالنسبة إلى متعلّقاتها كالأعراضبالنسبة إلى موضوعاتها، فكما أنّ ثبوت العرض متوقّف على ثبوت المعروضقبله(1)، فكذلك الحكم لا يثبت إلاّ بعد ثبوت متعلّقه، لأنّ «ثبوت شيء لشيءفرع ثبوت المثبت له» وحينئذٍ فلو تعلّق التكليف بالوجود الثابت في الخارجكان من قبيل الأمر بتحصيل الحاصل، وهو محال على الحكيم.
ولا ينحلّ الإشكال بتبديل الوجود بالإيجاد ـ كما ارتكبه المحقّقالخراساني رحمهالله (2) ـ إذ لا فرق بين الوجود والإيجاد إلاّ بالاعتبار(3).
فوجود المأمور به في الخارج موجب لسقوط التكليف، لا ثبوته، وبعبارةاُخرى: لنا مقامان: مقام جعل التكليف وإثباته، ومقام العمل به وإجرائه، ففيمقام العمل والإجراء لابدّ من تحقّق المأمور به في الخارج، وأمّا في ظرف
- (1) ولذا صارت جملة «ثبّت العرش ثمّ انقش» مثلاً معروفاً بينهم، أي أوجد السقف ثمّ انقشه بنقوش مزيّنة،والمقصود عدم تمكّن النقّاش من تزيين السقف بالنقوش إلاّ بعد تحقّق أصل السقف. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو أنّ الشيء الموجود بملاحظة نفسه وجود، وبملاحظة انتسابه إلى الجاعل إيجاد. م ح ـ ى.
(صفحه466)
التقنين وجعل التكليف الذي هو متقدّم على ظرف الإجراء فلا شيء يصلحأن يكون متعلّقاً له إلاّ الماهيّة والطبيعة.
والحاصل: أنّ النزاع إنّما هو في أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بنفسالطبائع أو بوجوداتها؟ والحقّ هو الأوّل، لظهور الأدلّة فيه، من دون قرينة فيالبين تلزمنا على ارتكاب خلاف الظاهر.
ج2
(صفحه468)
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
الفصل الثامن
في بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب
اختلفوا في أنّ الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الجواز بالمعنى الأعمّ أم لا؟
البحث في إمكان البقاء واستحالته
وينبغي أن نبحث قبل مقام الإثبات في إمكانه بحسب مقام الثبوت، فنقول:
ذهب بعضهم إلى كون الوجوب مركّباً من الإذن في الفعل والمنع من الترك،(في مكن ارتفاعه برفع فصله وإبقاء جنسه.
ولكنّ الحقّ أنّ الأحكام ليست مركّبة، فالوجوب أمرٌ بسيط منتزع عنالأمر الناشئ من الإرادة الحتميّة، والاستحباب أمرٌ بسيط منتزع عن الأمرالناشئ من الإرادة غير الحتميّة، وعلى هذا القياس سائر الأحكام.
إن قلت: الفرق بين الوجوب والاستحباب بالشدّة والضعف، إذ الأوّل هوالبعث الشديد، والثاني هو البعث الضعيف(1)، فكلّ منهما يكون مركّباً منجنس وفصل.
قلت: كلاّ، فإنّ ما به الامتياز في التشكيك بالشدّة والضعف عين ما به
- (1) أو الطلب الشديد والضعيف عند من قال بكون الوجوب والندب عبارة عن الطلب كالمحقّقالخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.
ج2
الاشتراك لا غيره، فإنّ كلاًّ من البعث الشديد والضعيف مرتبة خاصّة منالبعث، وشدّته وضعفه أيضاً في نفس البعث لا في غيره، فليس الوجوبوالندب مركّباً من البعث وشيء آخر باسم الشدّة في الأوّل والضعف في الثاني،كما أنّ الوجود أمرٌ بسيط، وما به الامتياز في الوجود الشديد والضعيف يرجعإلى ما به الاشتراك،فكما أنّ خصوصيّة شيء من مراتب الوجود ليست جزءمقوّماً له كي يلزم تركّبه، فكذلك الأمر في خصوصيّات مراتب البعث، فأينتركّبه من جنس وفصل؟
لا يقال: إنكار دلالة الوجوب على الجواز أو الرجحان من قبيل إنكارالبديهيّات، ضرورة أنّ الشيء إذا كان واجباً علينا كنّا مأذونين في فعله وكانفعله راجحاً لنا.
فإنّه يقال: نعم، ولكن دلالته عليهما ليست بنحو المطابقة ولا التضمّن، بلبنحو الالتزام، وبعد نسخ الوجوب يرتفع لازماه(1) أيضاً، لعدم إمكان بقاءاللازم بعد زوال الملزوم.
والحاصل: أنّه لا يمكن ثبوتاً بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب ونسخه.
البحث حول ما يقتضيه الأدلّة في المقام
وأمّا بحسب مقام الإثبات والدلالة، فالتعبير عن عنوان البحث بما فيالكفاية من قوله: «إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ولا المنسوخ علىبقاء الجواز»(2) ليس بصحيح، إذ لم يتوهّم أحد دلالة كلّ من دليل الناسخ أوالمنسوخ مستقلاًّ على بقاء الجواز، ولا مجال لتوهّمها، فلابدّ من تصحيح
- (1) وهما الجواز والرجحان. م ح ـ ى.