ج2
الجوانب الأربعة، ولا إشكال في أنّ مرادهم بالطلب في هذه العبارة هو الفعلالخارجي، أعني المشي لوجدان الماء.
وبالجملة: الطلب هو فعل اختياري، إلاّ أنّه على قسمين: 1ـ ما تعلّق بفعلنفس الإنسان، كطالب الضالّة، وطالب العلم، وما شاكلهما، 2ـ ما تعلّق بفعلغيره، كأمر المولى عبده، وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرّد الإرادة.
والطلب كالإرادة في عدم قابليّته للإنشاء، لكونه أيضاً أمراً واقعيّاً خارجيّاً،أمّا القسم الأوّل منه فظاهر، وأمّا القسم الثاني فلأنّ الأمر ـ أعني قول المولىلعبده مثلاً: «اضرب زيداً» ـ نفسه هو الطلب، لا أنّه إنشاء الطلب، فالقسمالثاني من الطلب أيضاً أمر واقعي غير قابل للإنشاء(1).
هذا حاصل كلام بعض الأعلام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا، وهو أحسن الأقوالفي المقام، لخلوّه عن الإشكال.
والحاصل: أنّ بين الطلب والإرادة مغايرة معنويّة، خلافاً للمحقّقالخراساني رحمهالله ، ولكنّهما يشتركان في عدم تعلّق الإنشاء بهما.
هذا تمام الكلام في مادّة الأمر.
ونحن وإن تعرّضنا لمسألة الجبر والتفويض عند تدريس الكفاية، إلاّ أنّا لنتعرّض لها هنا، خوفاً من طول الكلام.
- (1) الحَزْنة: ما غلظ من الأرض، وقلّما يكون إلاّ مرتفعاً. م ح ـ ى.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 2: 14.
(صفحه54)
في معنى صيغة الأمر
الفصل الثاني
فيما يتعلّق بصيغة الأمر
وفيه مباحث:
المبحث الأوّل: في المعانى الّتي تستعمل فيها صيغة الأمر
ربما يذكر للصيغة معانٍ قد استعملت فيها، وقد عدّ منها الترجّي والتمنّيوالتهديد والإنذار والإهانة والاحتقار والتعجيز والتسخير إلى غير ذلك.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
وهذا كما ترى، ضرورة أنّ الصيغة ما استعملت في واحد منها، بل لمتستعمل إلاّ في إنشاء الطلب، إلاّ أنّ الداعي إلى ذلك كما يكون تارةً هو البعثوالتحريك نحو المطلوب الواقعي، يكون اُخرى أحد هذه الاُمور كما لا يخفى،وقصارى ما يمكن أن يدّعى أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب فيما إذكان بداعي البعث والتحريك، لا بداعٍ آخر منها، فيكون إنشاء الطلب بها بعثحقيقة، وإنشائه بها تهديداً مجازاً، وهذا غير كونها مستعملة في التهديدوغيره(1)، إنتهى.
ج2
أقول: قوله: «لم تستعمل إلاّ في إنشاء الطلب» ظاهر في كون المستعمل فيههو الإنشاء، ولا يخفى أنّ الإنشاء عنده من مقوّمات الاستعمال كما نفى البُعدعنه في أواخر الأمر الثاني من المقدّمة(1)، فالظاهر أنّ في عبارته هنا مسامحةً،ومراده كون المستعمل فيه هو الطلب الإنشائي، ومنه تظهر المسامحة في قوله:«موضوعة لإنشاء الطلب» أيضاً.
وكيف كان، فكلامه هذا مبنيّ على ما اختاره من قابليّة الطلب للإنشاء.
الحقّ في المسألة
وأمّا على ما اخترناه من عدم تعلّق الإنشاء بالطلب فالمنشأ بهيئة «افعل»إنّما هو البعث والتحريك، سواء استعملت الصيغة وكان غرض المستعمل تحقّقالمأمور به في الخارج، كما إذا قال المولى العطشان لعبده: «جئني بالماء» أواستعملت وكان غرضه أمراً آخر، كالتهديد والتسخير والتعجيز ونحوها.
فلابدّ من توضيح المطلب بالنسبة إلى كلا القسمين:
أمّا القسم الأوّل ـ أعني ما إذا استعمل الأمر بقصد وقوع المأمور به فتوضيحه يتوقّف إلى بيان اُمور ثلاثة:
1ـ أنّ الآمر في هذا القسم يرغب إلى التوصّل إلى المأمور به بلا إشكال،وليس بين الأمر والرغبة ملازمة بحيث لو لم يأمر لم تتحقّق الرغبة، بل قديكون الإنسان يحبّ شيئاً من دون أن يأمر بإتيانه، إمّا لعدم كونه ذا عبد،أو لغير ذلك. نعم، الأمر أمارة تحقّق الرغبة في نفس المولى، من دون أن يكونبينهما ارتباط وملازمة.
(صفحه56)
2ـ أنّ الأمر ليس علّة لتحقّق المأمور به، بل يوجب تحقّق الإطاعةوالعصيان، بمعنى أنّ العبد إذا وافقه عدّ مطيعاً، وإذا خالفه عدّ عاصياً، ولو لالأمر لم يصدق عليه المطيع ولا العاصي كما هو واضح.
3ـ أنّ البعث والتحريك تارةً يكون تكوينيّاً واقعيّاً، كما إذا أخذ المولى بيدالعبد وجرّه إلى تحقّق مطلوبه، واُخرى اعتباريّاً يتحقّق بواسطة صدور الأمر،والمطلوب لا يتخلّف عن البعث والتحريك في الأوّل، لعدم إمكان العصيانفيه، بخلاف الثاني كما لا يخفى.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المنشأ بهيئة «افعل» إنّما هو القسم الثاني من البعثوالتحريك، وهو أمر اعتباري يعتبره العقلاء والشارع عقيب التلفّظ بهيئة«افعل»، ويترتّب عليه استحقاق المثوبة على الموافقة، والعقوبة على المخالفة، كميترتّب على سائر الاُمور الاعتباريّة آثارها.
لا يقال: لا فرق بين البعث والطلب، فلا يتمّ ما ذهبتم إليه من أنّ المنشأ هوالبعث ولا يمكن تعلّق الإنشاء بالطلب، فالنزاع بينكم وبين المحقّقالخراساني رحمهالله إنّما هو في التسمية، حيث إنّ الإنشاء تعلّق بأمر يسمّيه الطلبوتسمّونه البعث.
فإنّه يقال: كلاّ، فإنّ الطلب إنّما هو نفس الأمر، أعني قول المولى: «جئنيبالماء» وهو أمر واقعي لا يمكن تعلّق الإنشاء به كما تقدّم، فإنّه نفس الإنشاءلا ما تعلّق به الإنشاء، وأمّا البعث الذي تعلّق به الإنشاء فهو أمر اعتبارييوجد بذلك القول في عالم الاعتبار، فبينهما بون بعيد.
وبعبارة اُخرى: الطلب إنّما هو إنشاء البعث والتحريك الاعتباري، وأمّنفس البعث والتحريك الذي تعلّق به الإنشاء فهو مغاير للطلب.
ويشهد له أنّ البعث دائماً يتقوّم بشخصين: أحدهما الباعث والآخر
ج2
المبعوث، وفيه شيء ثالث أيضاً، وهو المبعوث إليه، بخلاف الطلب الذي أحدطرفيه شخص ذو العقل، وهو الطالب، وطرفه الآخر وهو المطلوب يكونغالباً من غير ذوي العقول، وليس له أمر ثالث، فيقال: طالب العلم، طالبالدُّنيا، طالب الآخرة، ونحوها.
إن قلت: قد يرى في الطلب أيضاً شخص آخر غير الطالب والمطلوب، وهوالمطلوب منه.
قلت: لم نجد في كتب اللغة أثراً من عنوان «المطلوب منه» بل جعل هذالعنوان ناشٍ عن أنّهم تخيّلوا أنّ هيئة «افعل» تكون لإنشاء الطلب، ولا يمكنعدم إضافة الطلب المنشأ بها إلى المكلّف، فإذا قال المولى لعبده: «جئني بالماء»فكما أنّ المولى يسمّى طالباً، والماء مطلوباً، فلابدّ من أن يسمّى العبد أيضمطلوباً منه.
على أنّه شاهد على المغايرة بين البعث والطلب، لا على الاتّحاد، لأنّ المرادبـ «المطلوب منه» هو المبعوث، والمراد بـ «المطلوب» هو المبعوث إليه، فالذيتعلّق به حرف الجرّ في كلّ منهما غير الذي تعلّق به في الآخر، على أنّ حرفالجرّ في أحدهما «من» وفي الآخر «إلى» فكيف يمكن أن يكونا متّحدينبحسب المعنى؟!
وبالجملة: الطلب على ثلاثة أقسام، فإنّ من يريد تحقّق شيء تارةً يحصّلهبنفسه، واُخرى يكره الغير على تحصيله، كالأخذ بيده وجرّه إليه بنحو يصيرمسلوب الاختيار، وثالثة يأمره على تحصيله، وكلّها اُمور واقعيّة لا يتعلّق بهالإنشاء، وأمّا البعث فهو على قسمين كما تقدّم: حقيقي واعتباري، والثاني هوالذي تعلّق به الإنشاء في صيغة الأمر.
هذا كلّه فيما إذا كان غرض المستعمل تحقّق المأمور به في الخارج.