ج2
فإنّه يقال: إنّما يلزم الكذب إذا أتى بها بداعي الإخبار والإعلام لا لداعيالبعث، كيف وإلاّ يلزم الكذب في غالب الكنايات، فمثل «زيد كثير الرماد» أو«مهزول الفصيل» لا يكون كذباً إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رمادأو فصيل أصلاً، وإنّما يكون كذباً إذا لم يكن بجواد، فيكون الطلب بالخبر فيمقام التأكيد أبلغ، فإنّه مقال بمقتضى الحال.
هذا مع أنّه إذا أتى بها في مقام البيان فمقدّمات الحكمة مقتضية لحملها علىالوجوب، فإنّ تلك النكتة إن لم تكن موجبة لظهورها فيه فلا أقلّ من كونهموجبة لتعيّنه من بين محتملات ما هو بصدده، فإنّ شدّة مناسبة الإخباربالوقوع مع الوجوب موجبة لتعيّن إرادته إذا كان بصدد البيان مع عدم نصبقرينة خاصّة على غيره(1)، إنتهى.
وذهب بعضهم إلى عدم ظهورها في الوجوب، لتعدّد المجازات فيها، وليسالوجوب بأقواها بعد تعذّر حملها على معناها.
بيان الحقّ في المسألة
أقول: قد عرفت أنّ أهمّ ما استدلّ به على ظهور الصيغة في الوجوبأمران: 1ـ حكم العقل والعقلاء بأنّ صدورها عن المولى حجّة على العبدوموجب لاستحقاقه العقوبة على المخالفة، 2ـ تبادر الوجوب عند استعمالها بلقرينة.
فمن تمسّك هناك بالأوّل ـ كالإمام الخميني وآية اللّه البروجردي ـ فلإشكال في جواز تمسّكه به هنا أيضاً، لعدم الفرق في البعث والتحريكالاعتباري بين كونه مستفاداً من الصيغة وبين كونه مستفاداً من الجملة
(صفحه74)
الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء، فإذا كان في الأوّل حجّة على العبد كان فيالثاني أيضاً كذلك من غير أن يكون أحدهما أقوى وآكد من الآخر في إفادةالوجوب.
نعم، بينهما فرق من جهة كونه في الأوّل مفاداً حقيقيّاً للصيغة، وفي الثانيمفاداً مجازيّاً للجملة الخبريّة، لكنّه ليس فارقاً فيما تقدّم من حكم العقلوالعقلاء.
وأمّا من تمسّك هناك بالتبادر كما قوّيناه تبعاً للمحقّق الخراساني رحمهالله فلمجال للتمسّك به هاهنا، للعلم بعدم كون الجملة الخبريّة موضوعة للوجوب،بل لثبوت النسبة بين الفعل والفاعل.
ولكنّ الذي يسهّل الخطب أنّا لسنا في المقام بصدد ما وضع له الجملةالخبريّة، بل بصدد المعنى الذي هي ظاهرة فيه فيما إذا استعملت في مقامالإنشاء وبيان الحكم، والظهور أعمّ من الحقيقة، ويمكن إثباته ببعض الأخبارالصحيحة، مثل صحيحة زرارة التي استدلّوا بها على حجّيّة الاستصحاب،قال: قلت(1): أصاب ثوبي دم رعاف أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أناُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّإنّي ذكرت بعد ذلك، قال: «تعيد الصلاة وتغسله»، قلت: فإن لم أكن رأيتموضعه وعلمت أنّه قد أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته،قال: «تغسله وتعيد الصلاة»، قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك،فنظرت فلم أرَ فيه شيئاً ثمّ صلّيت فرأيته فيه، قال: «تغسله ولا تعيد الصلاة»،قلت: لِمَ ذاك؟ قال: «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس
- (1) وهذه الرواية وإن كانت مضمرة، إلاّ أنّ إضمارها لا يضرّ باعتبارها حيث كان مضمرها زرارة، ومثله ليكاد يستفتى من غير الإمام المعصوم عليهالسلام . م ح ـ ى.
ج2
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً»(1). الحديث.
فإنّ زرارة لم يكن يسأل في مثل المقام عن استحباب غسل الثوب وإعادةالصلاة، بل عن وجوبهما، فقوله عليهالسلام : «تعيد الصلاة» و«تغسله» ظاهر فيوجوبهما بمقتضى تطابق الجواب مع السؤال.
إن قلت: فعلى هذا لعلّ الوجوب مستند إلى مسبوقيّة الجواب بالسؤالالمذكور، لا إلى نفس الجملة الخبريّة المستعملة في مقام بيان الحكم.
قلت: لا، فإنّه عليهالسلام لو قال مكان الجملتين: «أعد الصلاة» و«اغسله» لكانالوجوب مستفاداً من الصيغة بلا ريب، ولم يحتمل دخل السؤال فيه كما ليخفى، ولا فرق بين الصيغة وبين الجملة الخبريّة في ذلك.
نعم، مسبوقيّة الجملة الخبريّة بالسؤال المذكور قرينة على ظهورها فيالوجوب، لكنّ الظهور مستند إلى نفس الجملة لا إلى المسبوقيّة.
والحاصل: أنّ الجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء أيضاً ظاهرة في
الوجوب، كصيغة الأمر(2).
نعم، يقع الكلام في كيفيّة دلالتها على البعث بعدما عرفت من تحقيق معنىالمجاز وأنّه استعمال فيما وضع له بجعله معبراً إلى المقصود، فدلالتها عليه إمّا لمذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهاربأنّه لا يرضى إلاّ بوقوعه.
أو لما ذكره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره من أنّ استعمال الجملة الخبريّة
- (1) تهذيب الأحكام 1: 432، باب تطهير البدن والثياب من النجاسات، الحديث 8 ، والاستبصار 1: 292،باب الرجل يصلّي في ثوب فيه نجاسة قبل أن يعلم، الحديث 13.
- (2) وأمّا موارد استعمالهما فالذي يخطر ببالي أنّ الجملة الخبريّة تستعمل فيما إذا كانت القواعد الكلّيّةالواردة في الكتاب والسنّة بيد السائل، كقاعدة نفي العسر والحرج وبطلان الصلاة إذا وقعت نسياناً فيالنجاسة، ولكنّه يسئل عن الحكم لعدم توجّهه التامّ إلى تلك الاُصول الشاملة لمورد السؤال، والصيغةتستعمل فيما إذا كان الحكم بأصله وأساسه مجهولاً للراوي، فلا يقال: «تصلّي صلاة الجمعة» في مقامإنشاء وجوبها، بل يقال: «صلِّ صلاة الجمعة»، وعليكم بالتأمّل في موارد استعمالهما لكي يتّضح لكمصحّة ذلك وسقمه، فإنّه وإن خطر بالبال، إلاّ أنّي لم أتتبّع موارد الاستعمال. منه مدّ ظلّه.
(صفحه76)
مكان الصيغة لغرض تشويق المأمور، بدعوى تحقّق معناها منه وأنّه يقوم بهمن غير احتياج إلى الأمر، بل فطرته السليمة ورشده في حيازة المصالح تبعثهإليه بلا دعوة داعٍ، فقول الوالد لولده: «ولدي يصلّي» أو «يحفظ مقام أبيه» ليريد منها إلاّ الأمر، لكن بلسان الإخبار عن وقوعه وصدوره عنه بلا طلبمن والده، بل بحكم عقله ورشده وتمييزه(1).
كلام السيّد البروجردي رحمهالله حول أوامر النبيّ والأئمّة عليهمالسلام
في دلالة أوامر النبيّ والأئمّة عليهمالسلام على الوجوب
ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله بعد إثبات ظهور صيغة «افعل»والجمل الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء في الوجوب استشكل في استفادةالوجوب من الأوامر الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام أو من الجمل الخبريّةالواقعة في كلامهم في مقام الإنشاء وبيان الحكم بقوله:
إنّ الأوامر والنواهي الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام على قسمين:
القسم الأوّل: الأوامر والنواهي الصادرة عنهم في مقام إظهار السلطنةوإعمال المولويّة نظير الأوامر الصادرة عن الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم،مثال هذا: جميع ما صدر عنهم عليهمالسلام في الجهاد وميادين القتال، بل كلّما أمروا بهعبيدهم وأصحابهم في الاُمور الدنيويّة ونحوها، كبيع شيء لهم وعمارة بناءومبارزة زيد مثلاً.
القسم الثاني: الأوامر والنواهي الصادرة عنهم عليهمالسلام في مقام التبليغ والإرشادإلى أحكام اللّه تعالى، كقولهم: «صلِّ» أو «اغتسل للجمعة والجنابة» أونحوهما، ممّا لم يكن المقصود منها اعمال المولويّة، بل كان الغرض منها بيان م
- (1) تهذيب الاُصول 1: 205.
ج2
حكم اللّه به، نظير أوامر الفقيه في الأحكام الشرعيّة بالنسبة إلى مقلّديه.
أمّا القسم الأوّل: فهو وإن كان ظاهراً في الوجوب كما فصّلناه، ولكنّه نادرجدّاً بالنسبة إلى القسم الثاني، الذي هو العمدة في أوامرهم ونواهيهم عليهمالسلام ، وهومحلّ الابتلاء أيضاً.
وأمّا القسم الثاني: فلمّا لم يكن صدورها عنهم لاعمال المولويّة، بل كانلغرضالإرشاد إلى ما حكم اللّه به على عباده كانت في الوجوب والندب تابعةًللمرشد إليه، أعني ما حكم اللّه بها، وليس لاستظهار الوجوب أو الندب منهذا السنخ من الأوامر وجه، لعدم كون الطلب فيها مولويّاً، فتأمّل جيّداً(1).
إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة السيّد البروجردي رحمهالله حول أوامر النبيّ والأئمّة عليهمالسلام
وفيه: أنّه لا إشكال في كون القسم الأوّل أوامرهم المولويّة، وأمّالقسم الثاني فلا يرتبط بهم عليهمالسلام أصلاً، حتّى بنحو الإرشاد، بل هي أوامر اللّهتعالى حقيقةً وأنّهم عليهمالسلام بصدد بيانها، وكذلك أوامر الفقيه بالنسبة إلىمقلّديه(2)، فما صدر عنهم عليهمالسلام من الأوامر في مقام بيان الحكم أوامر مولويّةصادرة عن اللّه عزّ وجلّ ببيانهم عليهمالسلام ، فإنّهم حينما يقولون مثلاً: «صلّوا» يكونبمعنى أنّ اللّه سبحانه يقول: «صلّوا».
ويؤيّده أنّ أحدهم عليهمالسلام لو سئل عن علّة أمره الذي يكون من قبيل القسمالأوّل لم يُجب بعدم صدور الأمر عنه، بخلاف ما إذا سئل عن سبب القسمالثاني من أوامره، فلو سئل أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام عن أنّك لِمَ أمرتنا بقتال
- (2) والفرق بين الفقيه والمعصومين عليهمالسلام أنّهم قاطعون بأحكام اللّه تعالى، والفقيه لا يقدر غالباً إلاّ علىتحصيل الظنّ بها، فأوامرهم أوامر اللّه تعالى قطعاً، وأوامر الفقيه أوامره سبحانه ظنّاً. منه مدّ ظلّه.