(صفحه38)
الإنشائي منه عند إطلاقه، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضاً، وذلك لكثرةالاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظالطلب، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة، واختلافهما في ذلكألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة(1)، من المغايرة بينالطلب والإرادة، خلافاً لقاطبة أهل الحقّ والمعتزلة من اتّحادهما بمعنى أنّلفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكونبإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة، وبالجملة:هما متّحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً(2)، إنتهى ملخّصاً.
البحث حول الكلام النفسي
ولا بأس بالبحث مختصراً عن الكلام النفسي الذي سمّي عند الأشاعرةبالطلب المغاير للإرادة في موارد الجمل الإنشائيّة الطلبيّة، فنقول:
إنّ أوّل مسألة وقعت محلّ النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كلامه(3) تعالى،
- (1) ولا بأس بالإشارة إلى مبدء تكوّن الأشاعرة والمعتزلة وتسميتهما بهذين الاسمين، فنقول: إنّ الحسنالبصري ـ وببالي أنّه كان من الأسارى ثمّ أسلم ـ حيث كان عالماً شرع في التعليم، وحضر في مجلسدرسه كثير من المسلمين منهم واصل بن عطاء، فوقع في يوم من الأيّام بينه وبين الحسن بحث علمي،فاعتزل بعد منازعة طويلة بينهما عن مجلس الدرس وأسّس حوزة درس في مقابل الحسن، فاجتذب إليهجمع من المسلمين، فكان بعدئذٍ كلّ منهما يخالف الآخر في أكثر المسائل.
ثمّ إنّ أبا الحسن الأشعري ـ والظاهر أنّه من أعقاب أبي موسى الأشعري ـ بالغ بعد الحسن البصري فيترويج عقائده، فوجه تسمية المعتزلة بهذا الإسم إنّما هو اعتزال رئيسهم عن مجلس درس اُستاذه، ووجهتسمية الأشاعرة بهذا الاسم إنّما هو ترويج هذا المذهب بيد أبي الحسن الأشعري.
وببالي أنّ أيدي اليهود ـ الذين كانوا أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، كما أنّهم الآن كذلك أيضاً ـ فرّقت بينالمسلمين بهذا النحو وسائر أنحاء التفرّقات، كما أنّ المعاندين للإسلام خذلهم اللّه تعالى يفرّقون اليومبينهم بأنحاء مختلفة، منها أنّهم أوجدوا الوهابيّة في مهد نشوء الإسلام ومحلّ نزول القرآن.منه مدّ ظلّه.
- (3) وهذا النزاع صار منشأ تسمية علم الكلام به. منه مدّ ظلّه.
ج2
وأنّه هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل، بعد اتّفاقهما في صحّةإطلاق المتكلِّم عليه تعالى، لأجل كون القرآن كلامه أوّلاً، وتصريح بعضالآيات ـ كقوله: «وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما»(1) ـ عليه ثانياً.
الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل
والفرق بين القسمين من الصفات من وجهين:
1ـ أنّ صفات الذات كالعلم والقدرة غير محدودة ولا مختلفة، لثبوتها فيمقام الذات الذي لا يكون محدوداً ولا مختلفاً، فإنّه تعالى بكلّ شيءٍ عليم،وعلى كلّ شيءٍ قدير، بخلاف صفات الفعل، كالرزق والخلق، فإنّها منتزعةعن مقام فعله تعالى، وتكون محدودة مختلفة، فإنّه سبحانه يرزق بعض أفرادالإنسان أكثر من بعض، ويخلق في زمان أفراداً، وفي زمان آخر أفراداً اُخرى،فلم يخلق في الزمن الأوّل من خلقه في الزمن الثاني، ولا في الزمن الثانيمن خلقه في الزمن الأوّل.
2ـ أنّ صفات الذات قديمة، كما أنّ نفس الذات تكون كذلك، بخلاف صفاتالفعل، فإنّها حادثة.
الأقوال في كلامه تعالى
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعتزلة والإماميّة قالوا بأنّ كلامه تعالى أصواتككلام الإنسان، إلاّ أنّها قائمة بالأجسام مسموعة منها كالشجر ونحوه، فهيحادثة ومن صفات الفعل.
(صفحه40)
بخلاف الأشاعرة، فإنّهم ذهبوا إلى كون كلامه تعالى قديماً ومن صفاتالذات(1)، فاضطرّوا لأجل توجيه مذهبهم إلى الكلام النفسي، ووسّعوا الكلامالنفسي إلى الإنسان، فقالوا: إنّ للإنسان أيضاً كلاماً نفسيّاً، إلاّ أنّه حادثبخلاف كلام اللّه تعالى(2)، وقالوا في توضيح كلام الإنسان النفسي: إنّه إذا تكلّمبجملة سواء كانت خبريّة أو إنشائيّة يقوم بنفسه صفتان، فإذا أخبر بمجيءزيد من السفر مثلاً كان صورة هذا الخبر قائمة بنفسه وتسمّى علماً، وفي نفسهصفة اُخرى أيضاً تسمّى كلاماً نفسيّاً.
وأمّا الجمل الإنشائيّة فإن كانت أمراً كان في نفسه أمران: أحدهما هوالإرادة، والثاني هو الذي يسمّى باسمه العامّ كلاماً نفسيّاً، وباسمه الخاصّ طلباً،وإن كانت نهياً فكذلك لو قلنا بكون معنى النهي هو طلب الترك، ففي نفسهوصفان: أحدهما الإرادة، والثاني الطلب، وأمّا لو قلنا بأنّ معنى النهي هوالزجر، فأحد الوصفين هو الكراهة، والآخر يسمّى باسمه العامّ كلاماً نفسيّاً،وباسمه الخاصّ زجراً، وإن كانت الجملة الإنشائيّة من قبيل العقودوالإيقاعات، أو التمنّي والترجّي والاستفهام، يقوم أيضاً بنفسه وصفان:أحدهما حقيقة هذه الاُمور الاعتباريّة أو الحقيقيّة، والآخر كلام نفسي مندون أن يكون له اسم خاصّ.
والحاصل: أنّهم قالوا بتحقّق الكلام النفسي في جميع الجمل، لكنّه يسمّىباسم خاصّ فيخصوص الأمر والنهي من الجمل الإنشائيّة، دون الخبريّةوسائر الجمل الإنشائيّة، وهو في موارد الأمر صفة قائمة بالنفس غير الإرادة
- (1) وصفات الذات عند الأشاعرة زائدة على الذات قائمة به قياماً حلوليّاً، خلافاً لما هو الحقّ من أنّها عينه،فالكلام النفسي عندهم صفة قديمة زائدة على ذاته سبحانه حالّة فيه. منه مدّ ظلّه.
- (2) كما أنّ كلاًّ من العلم والقدرة في الإنسان حادث ومحدود، وفي اللّه سبحانه قديم وغير محدود.منه مدّ ظلّه.
ج2
التي هي أيضاً قائمة بها، وهو(1) الطلب الحقيقي.
وفي المقام قول ثالث حكاه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله في كتابالطلب والإرادة عن بعض أهل التحقيق، وهو أنّه لا فرق بين كيفيّة إطلاقالمتكلّم عليه تعالى وبين كيفيّة إطلاقه علينا، إلاّ أنّا نتكلّم بسبب الآلة، وهيالفم واللسان دونه تعالى، فإنّه يوجد الكلام بدون أيّة آلة حتّى الشجر والحجرونحوهما(2)،(3).
ثمّ إنّه رحمهالله ناقش في جميع الأقوال الثلاثة، وذهب إلى أنّ كلامهتعالى هو الوحي، وإن كان حقيقة الوحي مجهولة لنا، فإنّ القرآنمع كونه كلامه تعالى لا ينطبق عليه أحد هذه الأقوال، بل ينطبق عليه أنّهوحي(4).
هل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة لغوي؟
ثمّ إنّ صدر كلام المحقّق الخراساني رحمهالله ظاهر في أنّ النزاع بين المعتزلةوالأشاعرة إنّما هو في ترادف لفظي الطلب والإرادة وعدمه، فذهب المعتزلة إلىكونهما مترادفين بحسب المفهوم والوجود الخارجي والإنشائي(5)، إلاّ أنّهميفترقان في مقام الانصراف، فالطلب منصرف إلى الطلب الإنشائي، والإرادةمنصرفة إلى الإرادة الحقيقيّة، وذهب الأشاعرة إلى تغايرهما في الموضوع له،
- (1) أي الكلام النفسي. م ح ـ ى.
- (2) ويمكن أن يتأيّد هذا القول بقوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى» ـ طه: 17 ـ فإنّه كلامه تعالى بلريب، مع أنّه لم يتعلّق بشيء كالشجرة ونحوها، فتكلّمه سبحانه لا ينحصر بإيجاد الكلام في الأجسام.منه مدّ ظلّه.
- (5) والذهني كما في حاشية المشكيني رحمهالله . منه مدّ ظلّه.
(صفحه42)
فإنّ الطلب وضع للطلب الإنشائي، والإرادة للإرادة الحقيقيّة(1).
هذا حاصل كلام صاحب الكفاية رحمهالله .
وعليه فكان النزاع بينهما في أمر لغوي.
بل صرّح به بعد ذلك، حيث قال: ثمّ إنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بينالطرفين ولم يكن نزاع في البين، بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت منالعينيّة مفهوماً ووجوداً حقيقيّاً وإنشائيّاً، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينيّة هواثنينيّة الإنشائي من الطلب كما هو كثيراً ما يراد من إطلاق لفظه والحقيقي منالإرادة كما هو المراد غالباً منها حين إطلاقها، فيرجع النزاع لفظيّاً(2)،إنتهى كلامه.
وفيه: أنّ الأشاعرة كما عرفت ذهبوا إلى ثبوت صفة باسم الكلام النفسيقائمة بذاته تعالى، كالعلم والقدرة، وقالوا: إنّ للإنسان أيضاً كلاماً نفسيّاً، إلاّ أنّهحادث، بخلاف كلام اللّه تعالى، وأمّا المعتزلة فأنكروا الكلام النفسي من أصله،وذهبوا إلى أنّ تكلّمه سبحانه من قبيل صفات الفعل، وهذا ينادي بأعلىصوته كون النزاع في حقيقة عميقة، وهي وجود الكلام النفسي وعدمه، وهذلا يرتبط بترادف لفظي الطلب والإرادة وعدمه، بحيث لو قال الأشاعرةبترادفهما لأنكروا الكلام النفسي، ولو قال المعتزلة بمغايرتهما لأثبتوه، وتسميةالكلام النفسي في بعض الموارد من قبل الأشاعرة بالطلب في مقابل الإرادة لتوجب كون النزاع لغويّاً بحيث لو قالوا باتّحاد الطلب والإرادة لرفعوا اليد عنالكلام النفسي.
نقد أدلّة الأشاعرة على دعواهم