الكلام النفسي غير العلم كما تقدّم، على أنّ العلم بالمطابقة لم يتحقّق إلاّ فيبعض الموارد، لما عرفت من تحقّق الشكّ في بعض الموارد، ومن تحقّق العلمبالمخالفة في بعضها، فهذه الصفة ليست أمراً متّحد المآل حتّى يكون هو الكلامالنفسي.
وأمّا الإرادة فإنّهم صرّحوا أيضاً بمغايرتها للكلام النفسي كما عرفت، علىأنّ الدليل على تحقّق الإرادة إنّما هو كون الإخبار أمراً اختياريّاً كما تقدّم، فلوكانت هي الكلام النفسي فلابدّ من تحقّقه في جميع الأفعال الاختياريّة،كالخياطة والتجارة وغيرهما، مع أنّهم لا يلتزمون بتحقّق الكلام النفسي فيمثل هذه الأعمال، بل قالوا بكونه محدوداً بموارد الكلام اللفظي.
والحاصل: أنّ هذه الحقائق الموجودة عند قولنا: «زيد قائم» كلّها أجنبيّةعن الكلام النفسي، وليس في النفس صفة اُخرى وجداناً، ولا تحتاج هذهالجملة في صدق الخبر عليها إلى أمر آخر نسمّيه بالكلام النفسي.
الطلب، لتكون داعية إلى الأمر ولا يلزم محذور اللغويّة.
وفيه: أنّ المولى إذا قال لعبده: «جئني بالماء» وأراد به تحقّق المأمور به فيالخارج، لا الاختبار أو الاعتذار كان جميع الحقائق الموجودة في الجملالخبريّة موجودة فيه سوى المطابقة للواقع وعدمها، وسوى الحالات الثلاثالقائمة بنفس المتكلّم، أعني علمه بالمطابقة أو بالمخالفة أو شكّه فيهما، فإنّهذين الأمرين يختصّان بالخبر ولا يجريان في الإنشاء.
وبالجملة: غير هذين الأمرين من الاُمور الحقيقيّة الموجودة في الجملةالخبريّة موجودة في هذه الجملة الإنشائيّة أيضاً، وقد عرفت عدم صلاحيّةواحد منها لأن يسمّى كلاماً نفسيّاً، ومراجعة الوجدان قاضية بعدم أمر آخرحقيقي قائم بالنفس، بل يكفينا الشكّ فيه، فإنّ إقامة الدليل على من قالبثبوته، وهم الأشاعرة، وأمّا نحن فحسبنا عدم الدليل على ثبوته.
وأمّا الأوامر الاختباريّة والاعتذاريّة فهي وإن كانت فاقدة للإرادة، إلاّ أنّالأولى صادرة بداعي الاختبار والثاني بداعي الاعتذار، فلا يلزم اللغويّة.
وبالجملة: الداعي على صدور الأمر تارةً يكون تحقّق المأمور به، واُخرىغيره، كالاختبار والاعتذار، ولا ملزم للقول بكون الداعي أمراً متّحد المآل فيجميع الأوامر، فدعوى ثبوت أمر آخر يسمّى طلباً وكلاماً نفسيّاً فاسدة.
ومنها(1): قول الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
|
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
|
وفيه أوّلاً: أنّ قول الشاعر ليس بحجّة علينا، لعدم كونه معصوماً، ولعلّه كانمن الأشاعرة، وثانياً: أنّه لا ظهور له فيما ادّعوه، إذ كلّ كلام كاشف عن معنىقائم بالنفس من العلم في الأخبار، والتمنّي والترجّي والاستفهام الحقيقيّة في
- (1) هذا الدليل يعمّ الجمل الخبريّة والإنشائيّة كلتيهما. منه مدّ ظلّه.
(صفحه46)
تلك الصيغ، والإرادة في الأوامر والنواهي، إلى غير ذلك، ويحتمل أن يكونمراد الشاعر هذا المعنى وأنّ اللسان كاشف عن تلك الصفات.
والذي دعا الأشاعرة إلى القول بالكلام النفسي هو تصحيح متكلّميّتهتعالى.
توضيحه: أنّه لا ريب في صدق عنوان المتكلّم عليه تعالى، وهو لفظمشتقّ، وقد تقدّم في مبحث المشتقّ أنّهم قالوا بلزوم قيام المبدء بالذات قيامحلوليّاً في صدق المشتقّ حقيقةً، فلو كان كلامه تعالى من قبيل الأصوات كانحادثاً، وهو مستلزم لكونه محلاًّ للحوادث، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فلمحالة كان كلامه نفسيّاً قديماً.
وفيه: ما تقدّم في مبحث المشتقّ من فساد هذا المبنى، فإنّه لا دليل لهم علىلزوم كون القيام حلوليّاً في صدق المشتقّ بنحو الحقيقة، على أنّ كثيراً منالمشتقّات كالضارب والمؤلِم ليس كذلك كما هو واضح، بل المبدء في بعضها أمراعتباريّ ليس بإزائه شيء في الخارج حتّى يحلّ في الذات، كالمالك والزوج،فهل هم يلتزمون بأنّ صدق هذه المشتقّات بالعناية والتجوّز؟!
فالمشتقّ كما تقدّم في مبحثه على أنحاء، فإنّ المبدء تارةً يكون حالاًّ فيالذات، كالأبيض، واُخرى صادراً عنه، كالضارب، وثالثةً غير ذلك، كالمالك.
بل قد يكون المبدء عين الذات، كما في صفاته تعالى الذاتيّة.
بل قد لا يكون له مبدء بالمعنى الحدثي المصدري، كما في مثل اللاّبن والتّامروالعطّار والبقّال، فلابدّ من أن يعتبر المبدء، وهو اللّبن والتمر والعطر والبقل،بمعنى بيع التمر واللبن وهكذا.
فأين تحقّق القيام الحلولي في جميع المشتقّات؟!
ولا يخفى أنّ عنوان «المتكلّم» يكون من قبيل القسم الأخير من المشتقّات،
ج2
فإنّه نظير عنوان «العطّار» و«البقّال» في عدم مبدء له بالمعنى المصدري منالثلاثي المجرّد، فإنّ «الكلم» بمعنى الجرح، فلا يكون مبدءً للمتكلّم، فلابدّ منأن يكون نفس «التكلّم» بمعنى إيجاد الكلام مبدءً له، كما أنّ العطر بمعنى بيعالعطر كان مبدءً لعنوان العطّار، فالمتكلّم بهذا المعنى أي بمعنى «موجد الكلام»يطلق على اللّه وعلى الناس من غير فرق وجداناً بين الإطلاقين، إلاّ أنّ إيجادالكلام في الناس بسبب اللسان، وفيه تعالى بواسطة الشجرة والحصاةونحوهما، على ما ذهب إليه المعتزلة(1).
التكلّم من صفات فعله سبحانه
وفي الكتاب والسنّة شواهد على كون التكلّم من صفات فعله تعالى، لا منصفات ذاته:
1ـ قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيما»(2) فإنّه ظاهر في أنّ اللّه تعالىكلّم موسى في زمان دون زمان آخر، ولم يكلِّم غيره عليهالسلام في حال تكلّمه معه،وهاتان الخصوصيّتان ترتبطان بصفات فعله تعالى، وأمّا صفات ذاته فهو لتتّصف بنقيضها أصلاً، وهي قديمة عامّة لجميع الأشياء في جميع الحالات، كمتقدّم في أوائل هذا البحث(3).
2ـ حسنة(4) أبي بصير عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعت أبا عبداللّه عليهالسلام يقول:«لم يزل اللّه عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع(5) ذاته ولا مسموع،
- (1) ولو قيل: يمكن اتّخاذ لفظ «الكلام» مبدءً للمتكلّم. قلنا: الكلام أيضاً فاقد للمعنى الحدثي المصدري،فلابدّ من أن يكون هو أيضاً بمعنى إيجاد الكلام مبدءً. منه مدّ ظلّه.
- (3) راجع ص41 من هذا الجزء.
- (4) في سندها محمّد بن خالد الطيالسي، وهو إماميّ ممدوح، فالرواية حسنة اصطلاحاً. منه مدّ ظلّه.
- (5) السمع والبصر هنا من شؤون العلم، أي العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات. منه مدّ ظلّه.