ج6
المشكوك كونه من شعبان أو من رمضان، وحينئذٍ زيادة قوله: «وأفطرللرؤية» تفريعاً على قوله: «اليقين لا يدخله الشكّ» تكون قرينة على أنّ هذالخبر ليس بهذا الملاك، بل بملاك الاستصحاب.
إن قلت: سلّمنا ورود تلك الأخبار كلّها في اليوم المشكوك كونهمن شعبان أو من رمضان، فتدلّ على كون اليقين بدخول رمضان موضوعلوجوب الصوم، وأمّا كون خروجه موضوعاً لوجوب الإفطار فلا دلالة لهعليه، إلاّ أنّها تنافي جعل قوله عليهالسلام : «صم للرؤية» من مصاديق الاستصحاب،فإنّ قضيّة تلك الأخبار أنّ عدم وجوب الصوم بملاك عدم تحقّق موضوعه،وقضيّة هذا الخبر أنّه بملاك استصحاب عدم دخول شهر رمضان، وبينهممنافاة واضحة.
قلت: لا منافاة بينهما، إذ يمكن أن يكون عدم وجوب الصوم بملاكين قدتعرّض لأحدهما في تلك الأخبار ولآخر في هذا الخبر.
وبالجملة: يوم الشكّ إن كان مردّداً بين كونه آخر شعبان أو أوّل رمضانفلا يجب صومه بملاكين:
أ ـ عدم تحقّق موضوعه.
ب ـ استصحاب عدم دخول شهر رمضان.
وإن كان مردّداً بين كونه آخر رمضان أو أوّل شوّال فلا يجب إفطاره بملاكواحد، وهو استصحاب عدم خروج رمضان.
وأمّا تفسير اليقين من قوله: «اليقين لا يدخل فيه الشكّ» باليوم المتيقّنكونه من رمضان، وتفسير الشكّ منه باليوم المشكوك كونه من رمضانفخلاف ظاهر الرواية.
ولا وجه لقول المحقّق النائيني رحمهالله بغرابة حمل القضيّة على الاستصحاب، لأنّه
(صفحه104)
لا فرق بين النقض والدخول، إذ دخول الشيء في الشيء يوجب رفع هيئتهالاتّصاليّة، كنقضه به، فقوله: «اليقين لا يدخل فيه الشكّ» وقوله: «لا ينقضاليقين بالشكّ» بمعنى واحد، والتعبير مختلف.
والشاهد على هذا إرادة الاستصحاب من قوله عليهالسلام ـ في الصحيحة الثالثةلزرارة ـ : «لا يُدخل الشكّ في اليقين» كما أوضحناه.
فتلخّص من جميع ما ذكرنا ظهور الرواية في الاستصحاب، لكن كونهأظهر ما في الباب ـ كما قال به الشيخ الأعظم ـ ممنوع، لأنّ الصحيحة الاُولىلزرارة المتقدّم ذكرها(1) أظهر منها بلا إشكال.
في دلالة قاعدتي «الحلّيّة» و«الطهارة» على الاستصحاب
ربما يستدلّ على اعتبار الاستصحاب بأدلّة قاعدتي «الحلّيّة» و«الطهارة»كرواية عمّار، عن أبي عبداللّه عليهالسلام ـ في حديث ـ قال: «كلّ شيء نظيف حتّىتعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»(2).
ورواية حمّاد بن عثمان، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «الماء كلّه طاهر حتّى يعلمأنّه قذر»(3).
ورواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «كلّ شيءهو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك»(4).
القول في مدلول هذه الأحاديث
- (2) وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
- (3) وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الماء المطلق، الحديث 5.
- (4) وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
ج6
اختلفوا في مفاد هذه الأخبار على أقوال:
نظريّة المشهور في المقام
منها: ما ذهب إليه المشهور، وهو أنّ مفادها خصوص قاعدة الطهارةوالحلّيّة، لأنّ الغاية قيد للموضوع لا للحكم، فمعناها: «كلّ شيء لم يعلمنجاسته طاهر» و«كلّ شيء لم يعلم حرمته حلال» فمفادها جعل طهارةظاهريّة وحلّيّة كذلك فيما شكّ في حكمه الواقعي، ولا ارتباط لهبالاستصحاب ولا بالحكم الواقعي.
ما أفاده صاحب الكفاية في معنى هذه الروايات
ومنها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله في الكفاية: من دلالة الصدر علىالحكم الواقعي، ودلالة الغاية على الاستصحاب، وفي الحاشية على الرسائل:من دلالة الصدر على الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة والحلّيّة، ودلالة الغايةعلى الاستصحاب.
فقال في الكفاية ما حاصله: إنّ الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياءبعناوينها الأوّليّة، لا بما هي مشكوكة الحكم، والغاية تدلّ على أنّ ما حكمعلى الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّيّة مستمرّ ظاهراً ما لم يعلم بطروّ ضدّهأو نقيضه(1).
وقال في الحاشية ما حاصله أيضاً: إنّ الصدر بعمومه المستفاد من كلمة«كلّ» يدلّ على الحكم الواقعي، وبإطلاقه المستفاد من كلمة «الشيء» و«الماء»يدلّ على قاعدة الطهارة والحلّيّة، فإنّ «الشيء» مطلق يشمل جميع حالاته
(صفحه106)
التي من جملتها حالة الشكّ في حكمه الواقعي، والغاية تدلّ على استمرار الحكمالواقعي والظاهري المستفادين من المغيّى ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه، وهوالاستصحاب، فالغاية قيد للحكم لا للموضوع(1).
فهذه الأخبار ـ على ما في الحاشية ـ متعرّضة لثلاثة أحكام: حكم واقعي،وحكمين ظاهريّين.
كلام صاحب الفصول في مدلول هذه الأحاديث
ومنها: ما ذهب إليه صاحب الفصول رحمهالله ، وهو أنّ هذه الروايات تدلّ علىحكمين ظاهريّين فقط: أحدهما: قاعدة الطهارة والحلّيّة، والثاني:استصحابهما، ولا ارتباط لها بالحكم الواقعي أصلاً(2).
ووجهه يظهر ممّا تقدّم من كلام المحقّق الخراساني المتقدِّم آنفاً.
ومنها: احتمال آخر في مقابل المشهور، وهو أنّ الغاية وإن كانت قيدللموضوع، إلاّ أنّ هذه الأخبار مع ذلك تدلّ على خصوص الاستصحاب، لغير، فإنّ معناها: أنّ «كلّ شيء كان ثابت الطهارة طهارته مستمرّة حتّى يعلمأنّه قذر»، وهكذا أخبار الحلّ، وهذا ينطبق على الاستصحاب، لا على الحكمالواقعي، ولا على قاعدة الطهارة والحلّيّة.
إيراد الإمام الخميني«مدّ ظلّه» على صاحب الكفاية رحمهالله
وناقش سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله بوجوه، حيث قال:
- (1) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 185 ـ 186.
- (2) راجع الفصول الغرويّة: 373.
ج6
وفيما أفاده نظر:
أمّا أوّلاً: فلأنّ الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين ليستا من الأحكام المجعولةالشرعيّة، للزوم إمكان كون شيء بحسب الواقع لا طاهراً ولا نجساً، ولحلالاً ولا حراماً، لأنّ النجاسة والحرمة مجعولتان بلا إشكال وكلام، فلوفرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء خاصّة وجعل الطهارة والحلّيّة لأشياءاُخر خاصّة يلزم أن تكون الأشياء الغير المتعلّقة للجعلين لا طاهراً ولا نجساً،ولا حلالاً ولا حراماً، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة.
مضافاً إلى أنّ الأعيان الخارجيّة على قسمين: أحدهما: ما يستقذرهالعرف، والثاني: ما لا يستقذره، وإنّما يستقذر الثاني بملاقاته للأوّل وتلوّثه به،والتطهير عرفاً عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل وإرجاع الشيء إلى حالتهالأصليّة الغير المستقذرة، لا إيجاد شيء زائد على ذاته فيه يكون طهارةً،والظاهر أنّ نظر الشرع كالعرف في ذلك، إلاّ في إلحاق بعض الاُمور الغيرالمستقذرة(1) عرفاً بالنجاسات، وإخراج بعض المستقذرات العرفيّة(2) عنها.
وكذا الحلّيّة لم تكن مجعولة، فإنّ الشيء إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدةيكون حلالاً وإن لم يشتمل على مصلحة، فلا تكون الطهارة والحلّيّة منالمجعولات الواقعيّة.
نعم، الطهارة والحلّيّة الظاهريّتان مجعولتان.
فحينئذٍ نقول: إنّ قوله: «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» لو حمل علىالواقعيّتين منهما يكون إخباراً عن ذات الأشياء، لا إنشاء الطهارة والحلّيّة،فالجمع بين القاعدة والحكم الواقعي يلزم منه الجمع بين الإخبار والإنشاء في
- (1) كالكافر. منه مدّ ظلّه.
- (2) كماء الأنف والفم. منه مدّ ظلّه.