(صفحه122)
قال المحققّ الخراساني رحمهالله : والتحقيق أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء ثلاثة:
أحدها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعاً أصلاً، لا استقلالاً ولا تبعاً،وإن كان مجعولاً تكويناً بعين جعل موضوعه كذلك، وذلك مثل السببيّةوالشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف أو شرطه أو مانعه أورافعه، أمّا عدم جعلها التشريعي التبعي فلأنّ سببيّة مثل دلوك الشمس مثللوجوب الصلاة لو كانت منتزعة من وجوبها للزم تقدّم المنتزع على منشانتزاعه، وهو مستحيل.
توضيح ذلك: أنّ سبب التكليف مقدَّم عليه ذاتاً، وكذا شرطه وعدم مانعهوعدم رافعه، فالتكليف متأخّر ذاتاً عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة،ولو كان منشأً لانتزاع هذه الصفات لكان مقدّماً عليها، للزوم تقدّم منشالانتزاع على ما انتزع منه.
إن قلت: تأخّر التكليف عن السببيّة والشرطيّة والمانعيّة واضح دونالرافعيّة، فإنّ الرافع يرفع التكليف الموجود، كالاضطرار الرافع لحرمة أكلالميتة، فالتكليف هاهنا مقدّم على الرافعيّة.
قلت: الرافعيّة وإن كانت متأخّرة عن حدوث التكليف، إلاّ أنّها متقدّمةعلى بقائه، لأنّ بقاء التكليف مشروط بعدم الرافع، كما أنّ حدوثه مشروطبعدم المانع، وبالجملة: إنّ الرافعيّة مربوطة بالبقاء وبقاء التكليف يكونمتأخّراً عنها.
وأمّا عدم جعلها تشريعاً مستقلاًّ فلأنّ ذات السبب إذا كان أمراً تكوينيّـ مثل دلوك الشمس ـ فلا محالة كانت سببيّته أيضاً تكوينيّة، فلا يعقلتشريعها، وكذلك الشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة، فاتّصاف الاُمور التكوينيّةبهذه الأوصاف ليس إلاّ لأجل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك
ج6
تكويناً.
ثانيها: ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلاّ تبعاً للتكليف، وذلكمثل الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة لما هو جزء المأمور به وشرطه ومانعه، حيثإنّ اتّصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو مانعيّته لا يكاد يكون إلبالأمر بجملة اُمور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي، ولا يكاد يتّصف شيءبكونه جزءاً للمأمور به إلاّ بملاحظة الأمر بجملة اُمور هذا أحدها، وكذلا يكاد يتّصف بكونه شرطاً أو مانعاً له إلاّ بملاحظة الأمر بشيء مقيّدبوجوده أو عدمه، فجزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته للمأمور به إنّما تنتزعمن الحكم التكليفي.
ثالثها: ما يمكن فيه الجعل استقلالاً وتبعاً للتكليف وإن كان الصحيح جعلهمستقلاًّ وكون التكليف من آثاره وأحكامه، وذلك مثل الزوجيّة والملكيّةوالحرّيّة والرقّيّة، إلى غير ذلك، فإنّها وإن كان من الممكن انتزاعها منالأحكام التكليفيّة التي تكون في مواردها، كانتزاع الزوجيّة من إيجابالإنفاق على الزوج وإيجاب التمكين على الزوجة وانتزاع الملكيّة من جوازتصرّف البائع في الثمن والمشتري في المبيع كيف شاءا، إلاّ أنّ الصحيح أنّهمجعولة مستقلّةً، والأحكام التكليفيّة التي تكون في مواردها من أحكامهوآثارها، فهذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولةً بنفسها كالتكليف، لا مجعولةبتبعه ومنتزعة عنه، وإن كان جعلها كذلك أيضاً ممكناً، إلاّ أنّ كلّ ممكن ليسبواقع(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله .
نقد كلام صاحب الكفاية في المقام
(صفحه124)
ويرد على ما ذهب إليه في القسم الأوّل:
أوّلاً: أنّ الجمع بين القول بكون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّةللتكليف من الأحكام الوضعيّة وبين القول بعدم كونها مجعولةً تشريعاً أصلممّا لا ينبغي، لأنّا نقول في مقام التقسيم:
الأحكام الشرعيّة على قسمين: تكليفي ووضعي، وعلى ما ذهب إليه المحقّقالنائيني(1)، المجعولات الشرعيّة على ثلاثة أقسام: حكم تكليفي وحكم وضعيوماهيّة مخترعة.
فكيف كان، الحكم الوضعي يكون قسماً من المجعولات الشرعيّة، ولا يعقلكون المقسم مجعولاً شرعيّاً دون قسمه، فلابدّ له رحمهالله إمّا من الالتزام بعدم كونالسببيّة للتكليف وأمثالها من الأحكام الوضعيّة، وإمّا من الالتزام بكونها منالمجعولات الشرعيّة.
وثانياً: أنّ للتكليف معنيين: أحدهما: فعل المكلِّف، أي الإيجاب والتحريمونحوهما، وثانيهما: هو الحكم التكليفي، أعني الوجوب والحرمة ونحوهما،والمحقّق الخراساني رحمهالله خلط بينهما، فإنّ ما لا يمكن جعله تشريعاً هو ما يرتبطبالتكليف بالمعنى الأوّل، أعني السببيّة لما هو سبب لإيجاب الشارع مثلاً،وهكذا الشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة، فإنّ ما يرتبط بفعل الشارع ويكونمقدّمة له قد يكون أمراً قهريّاً غير اختياري، فكيف يمكن جعله تشريعاً؟
ألا ترى أنّ أوضح ما له دخل في عمل الشارع هو المصلحة والمفسدة فيموضوع الحكم على مذهب العدليّة، مع عدم إمكان جعلهما في عالم التشريعكما هو واضح.
ولكنّ التكليف المصطلح عليه بين الاُصوليّين هو التكليف بالمعنى الثاني،
ج6
ولا إشكال في إمكان جعل ما يرتبط به من المقدّمات تشريعاً، بل الظاهرجعله كذلك، لأنّ شرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ تستفاد من قوله تعالى:«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) ومانعيّة الحيضلوجوب الصلاة تستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك»(2) ورافعيّةالاضطرار لحرمة أكل الميتة ونحوه تستفاد من حديث الرفع، أعني قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما اضطرّوا إليه»(3) ولو لم تكن الآية والروايتان ما استفدنا كونالاستطاعة شرطاً لوجوب الحجّ، ولا كون الحيض مانعاً لوجوب الصلاة، ولكون الاضطرار رافعاً للتكليف.
والعجب من صاحب الكفاية حيث ذهب في مبحث الواجب المشروط إلىأنّ الشرط في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» من قيود الهيئة التي هيالوجوب(4)، معذهابه هنا إلىكونالشرطيّة لما هو شرط للتكليف أمراً تكوينيّلا مجعولاً شرعيّاً، فإنّ المجيء لم يكن مؤثّراً في وجوب الإكرام لو لم يكن قولالمتكلّم: «إن جاءك زيد فأكرمه» فأين تأثير الشرط في الحكم تكويناً؟!
ولابدّ هاهنا من ذكر نكتة: وهي أنّ الشرط في باب التكاليف لا يكون مهو المقابل للسبب، بل هو أعمّ من كلّ ما لوجوده دخل في التكليف، إذ لم يعبّرفي الآيات والروايات عمّا له دخل في تحقّق التكليف إلاّ بالشرط، ولم يحضرنيورود رواية دالّة على كون الشيء الفلاني سبباً للتكليف الفلاني، بخلاف بابالأحكام الوضعيّة، فإنّ التعبيرات هناك تدلّ على سببيّة ما لوجوده دخلفيها، مثل أنّ الملاقاة سبب لنجاسة الملاقي، وعقد البيع سبب للملكيّة، وعقد
- (2) وسائل الشيعة 2: 287، كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.
- (3) كتاب الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
(صفحه126)
النكاح سبب للزوجيّة، ونحوها.
إن قلت: فكيف جعل زوال الشمس سبباً لوجوب الظهرين وغروبها سببلوجوب العشائين؟
قلت: التعبير في الروايات في موردهما أيضاً ورد بنحو القضيّة الشرطيّة،فعن أبي جعفر عليهالسلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان: الظهر والعصر، فإذغابت الشمس دخل الوقتان: المغرب والعشاء الآخرة»(1).
وسائر الروايات أيضاً وردت بهذه الكيفيّة.
ولو فرضنا ورود رواية ظاهرة في سببيّة زوال الشمس وغروبها لوجوبالظهرين والعشائين فلابدّ من تفسيرها بهذه الروايات الدالّة على الشرطيّة.
حقّ المقال في كيفيّة الجعل في شرائط التكليف
ثمّ اعلم أنّ هذا القسم من الأحكام الوضعيّة يمكن جعلها تبعاً للتكليف،كأن يقال: «إن استطعتم يجب عليكم الحجّ» ويمكن جعلها بنحو الاستقلال،كأن يقال: «يجب عليكم الحجّ» ثمّ يقال في ضمن دليل آخر: «الاستطاعةشرط لوجوب الحجّ».
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في القسم الثاني
وأمّا ما ذهب إليه صاحب الكفاية في القسم الثاني ـ وهو أنّ الجزئيّةوالشرطيّة والمانعيّة لما هو جزء أو شرط أو مانع للمأمور به مجعولةٌ تبعللتكليف لا بالأصالة ـ فإن أراد به إمكان جعلها تبعاً فلا إشكال فيه، وأمّا إنأراد به انحصار جعلها كذلك وعدم إمكان جعلها بالأصالة ـ كما هو ظاهر
- (1) وسائل الشيعة 4: 125، كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 1.