ج6
فإنّه يقال: آية الوضوء تدلّ بالمطابقة على وجوب الوضوء، وأمّا جعلالحرج فهو مدلولها الالتزامي لا المطابقي، فهي لا تكون بلفظها متعرّضةً لمتعرّضته آية الحرج.
نعم، لو قيل مكان آية الحرج: «لا يجب الوضوء الحرجي» لكان تقييداصطلاحيّا(1).
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في الحكومة والورود
والورود أيضاً عند سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» كثيرا ما يكونمن نتائج الحكومة وثمراتها، وليس في عرضها، فإنّ حيثيّة تقدّم دليل لفظيعلى دليل لفظي آخر ليست إلاّ على نحوين: أحدهما: التقدّم الظهوري،والثاني: التقدّم على وجه الحكومة، سواء كانت نتيجتها رفع الموضوع حكمأو رفعه حقيقةً، فالورود ليس من أنحاء تقديم دليل لفظي على دليل آخر فيمقابل التخصيص والحكومة.
وإن شئت قلت: تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوري وعلىنحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات، فلا يعقل قسم آخر فيالأدلّة اللفظيّة يسمّى ورودا، فإنّ أحد الدليلين إمّا أن يتعرّضلما يتعرّضه الدليل الآخر أو يتعرّض لما لا يتعرّضه، والتقديم في الأوّلمن باب الأقوائيّة في الظهور، وفي الثاني من باب الحكومة، ولا ثالثلهما، فليس لنا ملاك آخر للتقدّم كي نسمّيه ورودا، فإنّ أتمّ مصاديقالورود عندهم أن يقال: «أكرم العالم» و«ليس زيد بعالم» مع أنّ تقدّم الثاني
- (1) فتبيّن أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ والمقيّد على المطلق قد يكون ملاكه الأقوائيّة في الظهور ويسمّىتخصيصا وتقييدا، وقد يكون الملاك تعرّض الخاصّ والمقيّد لما لا يتعرّضه العامّ والمطلق، ويسمّىحكومةً. م ح ـ ى.
(صفحه348)
لا يكون إلاّ بملاك تعرّضه لما لا يتعرّضه الأوّل، فالورود قسم من الحكومة،لا في عرضها.
نعم، لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلّة اللبّيّة على بعض ـ كتقدّم بناءالعقلاء على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان ـ بالورود، كما أنّه لبأس بتسمية تقدّم بعض الأدلّة اللفظيّة على بعض الأدلّة اللبّيّة ـ كتقدّم أدلّةالأمارات والاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان ـ بالورود، وأمّا في الدليليناللفظيّين فلا يعقل الورود في عرض الحكومة(1).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه العالي» في المقام.
الحقّ في الفرق بين الورود والحكومة
أقول: قوله«مدّ ظلّه»: «تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوري وعلىنحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات إلخ» صحيح لو جعلنا المقسم فيالتقسيم الدلالة اللفظيّة، ولكن يمكن أن يتقدّم دليل على آخر بملاك غير الدلالةاللفظيّة، فلا محالة يكون ملاكا ثالثا غير داخل في ذلك المقسم، وهو أن يكوندليل بوجوده(2) رافعا لموضوع دليل آخر حقيقةً، وهذا يسمّى ورودا،لا حكومةً، ولهذا الملاك دائرة واسعة، فإنّه قد يتحقّق في تقدّم دليل لبّي علىلبّي آخر، وقد يتحقّق في تقدّم دليل لفظي على لبّي، وقد يتحقّق في تقدّم دليللفظي على دليل لفظي آخر، فإنّ تقدّم الأمارات على أصالة البراءة العقليّة ليكون إلاّ بملاك الورود، فإنّ قوله: «شرب التتن حرام» فرضا نفس وجودهبيان رافع لموضوع البراءة العقليّة من دون أن يكون بحسب دلالته متعرّضا لم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 240.
- (2) لا بدلالته اللفظيّة. م ح ـ ى.
ج6
لا يتعرّضه البراءة العقليّة من موضوعها أو حكمها أو غير ذلك، فإنّ مفادهاللفظي حرمة شرب التتن، ومفادها قبح العقاب بلا بيان، وليس لسانه «أنبيان» حتّى يكون تقدّمه عليها من باب الحكومة،لكن نفس وجوده يكونبيانا، فتقدّمه عليها يكون ورودا، والوارد في هذا المثال دليل لفظي والموروددليل لبّي.
الحقّ في وجه تقدّم الأمارات على الاستصحاب
وتقدّم الأمارات على الاستصحاب أيضاً يكون بنحو الورود، لأنّه إذقامت رواية معتبرة على عدم وجوب صلاة الجمعة مثلاً يكون نفسوجودها(1) بمقتضى دليل اعتبارها حجّة، فلا مجال للتمسّك بقوله: «لا تنقضاليقينبالشكّ» إذ لامورد له بملاحظة ماعرفت(2) منأنّ معناه «لا تنقض الحجّةبغيرالحجّة» فالأمارات متقدّمة علىالاستصحاب بنحوالورود، سواءكان دليلحجّيّتها لفظيّا أو بناء العقلاء، وكلّ من الوارد والمورود هاهنا دليل لفظي.
فدائرة الورود واسعة، بخلاف الحكومة، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بين دليلينلفظيّين.
فتحصّل من ذلك أنّ تقدّم الأمارات على الاستصحاب يكون بنحوالورود، وهو لا يكون قسما من الحكومة كما تخيّله سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه».
هذا هو الفرق بين الحكومة والورود.
الفرق بين التخصّص والورود
- (1) ولا يكون مدلولها اللفظي حجّيّتها، فإنّها لا تقول: «أنا حجّة» فلا تكون بدلالتها متعرّضة لجهة من جهاتدليل الاستصحاب حتّى تكون حاكمة عليه، بل نفس وجودها حجّة ورافع لموضوع دليل الاستصحاب،فتقدّمها عليه لا يكون إلاّ بنحو الورود. منه مدّ ظلّه.
(صفحه350)
وأمّا الفرق بينه وبين التخصّص فهو أنّ التخصّص خروج عن الدليلبنفسه، أي من دون ملاحظة دليل آخر، بخلاف الورود، فإنّه خروج عنهبملاحظة وجود الدليل الوارد، بحيث لو لم يكن لما خرج ما خرج، وبعبارةاُخرى: الورود يكون نوعا من التعبّد، بخلاف التخصّص، فإنّه خروج واقعيبلا تعبّد أصلاً.في ملاك تقدّم الاستصحاب على سائر الاُصول العمليّة
ملاك تقدّم الاستصحاب على سائر الاُصول العمليّة
لا إشكال في تقدّم الاستصحاب على سائر الاُصول العمليّة الاُخر، ولذاشتهر بينهم أنّ الاستصحاب عرش الاُصول وفرش الأمارات.
وإنّما الإشكال في وجهه.
وحيث إنّ الاُصول تنقسم إلى عقليّة وشرعيّة(1) نعقد لكلّ منهما بحثعليحدة، فنقول:
وجه تقدّم الاستصحاب على الاُصول العقليّة
الحقّ أنّه وارد على الاُصول العقليّة.
وذلك لأنّ موضوع البراءة العقليّة هو العقاب بلا بيان، فإنّ العقليحكم بقبحه، وموضوع الاحتياط هو دفع العقاب المحتمل، فإنّه يحكمبوجوبه، وموضوع التخيير دوران الأمر بين المحذورين مع عدم المرجّحفي البين.
وقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بيان بالنسبة إلى البراءة العقليّة، لأنّا إذ
- (1) بعض الاُصول شرعي وعقلي، كالبرائة، وبعضها لا يكون إلاّ عقليّا، كالاحتياط والتخيير، وبعضها ليكون إلاّ شرعيّا، كأصالة الإباحة والطهارة. منه مدّ ظلّه.
ج6
شككنا مثلاً في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فلا مورد لحكم العقلبقبح العقاب بلا بيان، إذ نفس دليل الاستصحاب الحاكم ببقاء وجوبها بيان.
وهو ـ أعني الاستصحاب ـ مؤمّن من العقاب بالنسبة إلى الاحتياط، لأنّإذا شككنا يوم الجمعة في أنّ الواجب هل هو صلاة الظهر أو الجمعة يجرياستصحاب عدم وجوب الظهر في يوم الجمعة، فلا يبقى مجال لحكم العقلبوجوب دفع الضرر المحتمل، لارتفاع مورده بالاستصحاب.
وهو ـ أعني الاستصحاب ـ مرجّح لأحد الطرفين في أصالة التخيير، لأنّإذا شككنا في أنّ العمل الكذائي هل هو واجب أو حرام وكان سابقا واجبا،يكون استصحاب الوجوب مرجّحا له، فلا يبقى مورد لدوران الأمر بينالمحذورين من غير مرجّح في البين.
وحيث إنّ نفس وجود دليل الاستصحاب يكون بيانا ومؤمّنا منالعقاب ومرجّحا، لا دلالته اللفظيّة، فالاستصحاب وارد على الاُصولالعقليّة(1).
وجه تقدّم الاستصحاب على الاُصول الشرعيّة
وأمّا وجه تقدّمه على الاُصول الشرعيّة فلابدّ قبل التحقيق فيه منملاحظة مفاد هذه الاُصول، فنقول:
إنّ موضوع الاُصول الشرعيّة مقيّد بعدم(2) العلم، فإنّ مفاد قوله: «رفع ملا يعلمون» رفع التكليف الذي لا يكون معلوما، ومفاد قوله: «كلّ شيءحلال حتّى تعرف أنّه حرام» كلّ شيء لم يعلم حرمته فهو لك حلال، ومفاد
- (1) لما تقدّم من أنّ الدليل إذا كان بنفسه متقدّما على دليل آخر سمّي ورودا. م ح ـ ى.
- (2) لكن هذا التقييد في البراءة الشرعيّة مدلول نفس الموضوع، وفي الحلّيّة والطهارة مستفاد من الغايةالمذكورة في دليليهما. منه مدّ ظلّه.