ثمّ استشكل على نفسه بأنّ اليقين جعل موضوع الاستصحاب في لسانالأدلّة، فكيف يصحّ جريانه مع عدم اليقين؟
فأجاب عنه بأنّ اليقين المأخوذ في أدلّة الاستصحاب ليس موضوعاً له، بلطريق إلى الثبوت، فيكون التعبّد بالبقاء مبنيّاً على أصل الثبوت لا على اليقينبه، وذكر اليقين في الأدلّة إنّما هو لمجرّد كونه طريقاً إليه، ففي موارد قيام الأمارةعلى شيء يحرز ثبوته بها وبقائه بأدلّة الاستصحاب الدالّة على الملازمة بينالثبوت والبقاء(1).
نقد ما أفاده صاحب الكفاية في المقام
وموضوعيّاً، فإنّه طريقي باعتبار متعلّقه، وموضوعي باعتبار الاستصحاب،فحرمة نقض اليقين بالشكّ تدور مدار اليقين، لأنّه موضوعها.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال
وأجاب المحقّق النائيني رحمهالله وبعض تلامذته عن الإشكال بأنّ أدلّة حجّيّةالطرق والأمارات حاكمة على أخبار الاستصحاب بتوسعتها لها، فإنّ دليلحجّيّة الخبر الواحد مثلاً يدلّ على أنّ من قام عنده الخبر متيقّن بنظر الشارعويأمره الدليل بإلغاء احتمال الخلاف.
والحاصل: أنّه لو لم يكن أدلّة حجّيّة الأمارات لم يجر الاستصحاب فيموردها، لانحصار اليقين باليقين الوجداني، إلاّ أنّ أدلّة حجّيّتها تدلّ على كوناليقين على قسمين: وجداني وتعبّدي، وكلّ منهما كافٍ لجريانالاستصحاب(1).
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
ويرد عليه أنّ دليل حجّيّة الأمارات منحصر في بناء العقلاء، فإنّهم عندفقد العلم يعملون بعدّة أمارات قد أمضى الشارع بعضها ـ كخبر الواحد وردع عن بعض آخر ـ كالقياس والاستحسان ـ والعقلاء لا يرون أنفسهمعند العمل بخبر الواحد مثلاً متيقّنين، بل يعملون عند فقدان القطع بخبرالواحد وسائر الأمارات من دون تنزيلها منزلة اليقين ومن دون إلغاء احتمالالخلاف أصلاً، بل تدلّ سيرتهم على الحجّيّة فقط، وهي بمعنى المنجّزيّةوالمعذّريّة.
- (1) أجود التقريرات 4: 82 ، وفوائد الاُصول 4: 403.
ج6
على أنّ سائر الأدلّة التي ادّعي دلالتها على حجّيّة الأمارات أيضاً لا تدلّعلى تنزيلها منزلة اليقين، ألا ترى أنّ مفهوم آية النبأ الذي ادّعي دلالته علىحجّيّة خبر الواحد عبارة عن «إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن»؟ وعلىفرض تسليمه أين دلالته على لزوم إلغاء احتمال الخلاف وتنزيل خبر العادلمنزلة اليقين؟
الحقّ في حلّ الإشكال
ويمكن الجواب عن الإشكال بأنّ اليقين ـ كما قلنا سابقاً ـ اُخذ موضوعللاستصحاب بلحاظ تعلّقه بالمتيقّن، لا بلحاظ كونه من الصفات القائمة بنفسالمتيقِّن، فإنّ اليقين بذلك اللحاظ له إبرام مصحّح لإسناد النقض إليه، لباللحاظ الثاني، وقد مرَّ توضيح ذلك سابقاً(1).
ولابدّ من ضمّ نكتة اُخرى إليه حتّى يتبيّن جواب الإشكال، وهي أنّ ملاكإبرام اليقين واستحكامه بالنسبة إلى المتيقّن لا يكون كشفه عن الواقع دائماً، إذكثيراً ما يكون جهلاً مركّباً، بل الملاك هو حجّيّته وعدم حجّيّة الشكّ، فكأنّهقيل: «لا تنقض اليقين بالشكّ لأنّ اليقين حجّة والشكّ ليس بحجّة» فالحكمـ عني حرمة النقض ـ يدور مدار العلّة، والمعنى «لا تنقض الحجّة باللاحجّة».
فلا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد الأمارات المعتبرة، لكونهحجّة، إلاّ أنّ حجّيّتها شرعيّة وحجّيّة اليقين الوجداني عقليّة.
هذا ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الإمام«مدّ ظلّه» عن الإشكال مع توضيحمنّا(2).
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 124.