(صفحه414)
إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «لا تكرم الفاسق» فإنّهما يتعارضان في موردالاجتماع، والمقام ليس كذلك، لعدم التعارض بين عموم «أكرم العلماء» وبينإطلاقه الأزماني، غاية الأمر أنّ هاهنا دليلاً آخر ـ أعني «لا تكرم الفسّاق منالعلماء» ـ وأمره دائر بين تخصيص العموم الأفرادي وتقييد الإطلاق الأزمانيالمعبّر عنه بالنسخ، فإنّه صالح لكلّ منهما(1).
ولا يجري هاهنا ما ذكرناه في تلك المسألة من كون العامّ بيانا للمطلق،فينتهي أمده بعد صدور العامّ، بخلاف العكس، فإنّه لا تعارض بينهما في المقامحتّى يقال بكون العامّ بيانا للمطلق.
وقد يتوهّم أنّ التخصيص مستلزم للتصرّف في المطلق أيضاً، بخلافالنسخ، فالنسخ مقدّم على التخصيص، لعدم استلزامه إلاّ تصرّفا واحدواستلزام التخصيص تصرّفين: أحدهما في العموم الأفرادي، والآخر فيالإطلاق الأزماني.
وفيه: أنّ التخصيص يرفع موضوع الإطلاق، لأنّه يتصرّف فيه، فهو أيضلا يستلزم إلاّ تصرّفا واحداً، وهو خروج مورد الخاصّ عن تحت العمومالأفرادي واقعا من أوّل الأمر، فلا يشمله دليل العامّ بحسب الإرادة الجدّيّةحتّى ينعقد له بالنسبة إليه إطلاق.
وقد يتوهّم تقدّم التخصيص على النسخ، لأنّ العلم الإجمالي بكون الخاصّالمتأخّر إمّا مخصّصا وإمّا ناسخا ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، لأنّالمولى إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال بعد حضور وقت العمل به: «لا تكرم
- (1) ويمكن زيادة توضيح للمسألة في ضمن مثال، وهو أنّه إن وقع التنازع والاختلاف بين صبيّ وغلام كانالغلام غالبا على الصبيّ، وأمّا إن لم يكن بينهما اختلاف أصلاً، لكن أراد رجل قويّ أن يضرب أحدهمفلا ترجيح بينهما، لقدرته على كليهما، ومسألة تعارض العموم والإطلاق من قبيل الأوّل، وما نحن فيهمن قبيل الثاني. م ح ـ ى.
ج6
الفسّاق من العلماء» نعلم تفصيلاً بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق من حينصدور الخاصّ، ونشكّ في وجوبه فيما بين صدور العامّ وصدور الخاصّ، لأنّالخاصّ إن كان ناسخا للعامّ كان العالم الفاسق واجب الإكرام في تلك البرهةمن الزمان، وإن كان مخصّصا له فلا.
فالخاصّ وإن كان أمره دائرا بين كونه مخصّصا للعامّ وبين كونه ناسخا له،إلاّ أنّه يتولّد من هذا العلم الإجمالي علم تفصيلي متعلّق بعدم وجوب إكرامالفسّاق من العلماء بعد صدور الخاصّ، وشكّ بدوي متعلّق بوجوب إكرامهموعدمه فيما بين صدور العامّ والخاصّ، فيجري أصالة البراءة واستصحاب عدمالوجوب، وهذا مقتضى التخصيص، فإنّ مقتضى النسخ وجوب إكرامهم فيمبين صدور العامّ والخاصّ.
إن قلت: لا يجري هاهنا أصالة البراءة والاستصحاب، لأنّ جريانالاُصول مشروط بتحقّق ثمرة عمليّة، وهي منتفية هاهنا.
قلت: يكفي في الأثر ما يترتّب على مجرى الأصل بنحو النذر، فلو نذرنتصدّق درهم إذا كان إكرام العالم الفاسق واجبا ولو في يوم، وأجرينا أصالةالبراءة من وجوب إكرامه أو استصحاب عدم وجوبه فيما بين صدور العامّوالخاصّ لكفى في انتفاء وجوب التصدّق.
وفيه: أنّ العلم الإجمالي إذا كان واقعيّا لا يعقل أن ينحلّ إلى علمتفصيلي وشكّ بدوي متولّدين منه، فإنّه يستلزم رافعيّة الشيء لنفسه، وهوغير معقول.
وبعبارة اُخرى: إن كان العلم الإجمالي تخيّليّا(1)، فهو خارج عن محلّالكلام، فإنّ البحث إنّما يكون في الدوران بين التخصيص والنسخ حقيقةً، وإن
- (1) كما في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين. م ح ـ ى.
(صفحه416)
كان حقيقيّا فلا يعقل أن يتولّد منه شيء يوجب انحلاله، لاستحالة رافعيّةالشيء لنفسه.
نعم، لو قلنا بإمكان انحلاله كذلك فالانصاف أنّ هذا وجه حسن لتقديمالتخصيص على النسخ في صورة تأخّر صدور الخاصّ عن العامّ، فصحّة هذالوجه وعدمها مبنائي.
ويمكن المناقشة فيه على فرض تسليم المبنى ـ أعني انحلال العلم الإجمالي أيضاً، لأنّ إكرام العالم الفاسق قبل صدور الخاصّ كان واجبا قطعا إمّا ظاهروإمّا واقعا، فلا يجري أصالة البراءة منه أو استصحاب عدمه(1).
هذا كلّه فيما إذا استفيد الاستمرار الزماني في العامّ من الإطلاق.
وأمّا إذا استفيد من القضيّة الحقيقيّة فالنسخ يرجع إلى نحو من التخصيصأيضاً، فإنّه إذا قال: «أكرم العلماء» وقلنا: معناه: «كلّ من وجد في الخارج فيطول الزمان واتّصف بكونه عالما يجب إكرامه» فله عموم أفرادي، وعمومأزماني مستفاد من القضيّة الحقيقيّة، فلو قال عقيبه: «لا تكرم الفسّاق منالعلماء» يدور أمره بين تصرّفه في العموم الأفرادي وبين تصرّفه في العمومالأزماني، فإن قلنا بتقدّم قلّة التصرّف على كثرته كان النسخ مقدّما علىالتخصيص، فإنّه تصرّف في العامّ من زمان صدور الخاصّ، بخلاف التخصيصالذي هو تصرّف فيه من أوّل الأمر، أي من زمان صدور العامّ، وإلاّ فلترجيح بينهما.
وأمّا إذا استفيد الاستمرار من نحو قوله: «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال أبدا إلىيوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة» فلنا أدلّة ثلاثة لفظيّة: أحدها:«إكرام كلّ عالم حلال» مثلاً، ثانيها: «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم
- (1) هذا رجوع عمّا أفاده آنفا، من أنّ الانصاف أنّ هذا الوجه حسن على فرض تسليم الانحلال. م ح ـ ى.
ج6
القيامة»(1)، ثالثها: «إكرام العالم الفاسق حرام» وأمر الأخير دائر بين تصرّفه فيالصغرى(2) وتصرّفه في الكبرى(3)، فإن قلنا بإفادة المصدر المضاف العموم كانالدليل الثاني أيضاً عامّا ومفاده «كلّ حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال أبداً إلى يوم القيامةوكلّ حرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة» فيرجع النسخ أيضاً إلى التخصيص،ولا ترجيح بين التخصيصين، إلاّ إذا قلنا بتقدّم ما هو أقلّ تصرّفا، فيقّدمالنسخ، وإن لم نقل بإفادته العموم كان الدليل الثاني من حيث الموضوع(4)مطلقا، فأمر الخاصّ في الواقع دائر بين التخصيص والتقييد، ولا ترجيح بينهما،لعدم كون المقام من الموارد التي يقدّم فيها التقييد على التخصيص كما عرفت(5)،فلا ترجيح بين النسخ والتخصيص.
هذا كلّه فيما إذا تقدّم العامّ على الخاصّ.
حكم ما إذا صدر العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ
وأمّا إذا كان متأخّرا عنه ودار الأمر بين كونه ناسخا للخاصّ وبين كونالخاصّ مخصّصا له، فلابدّ من الحكم بتقدّم التخصيص على النسخ(6)، سواءكان الدليل على الاستمرار الزماني في الخاصّ هو الإطلاق، أو كونه بنحوالقضيّة الحقيقيّة، أو مثل قوله: «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال أبداً إلى يوم القيامةوحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة».
- (1) وهذا الدليل بمنزلة الكبرى للأوّل. م ح ـ ى.
- (2) فيكون تخصيصا. م ح ـ ى.
- (4) ذكر الاُستاذ«مدّ ظلّه» هذا القيد لئلاّ يتوهّم أنّ الاستمرار مستفاد من الإطلاق، فإنّه مفاد اللفظ، أعني قوله:«أبداً» و «إلى يوم القيامة». م ح ـ ى.
- (6) ولا يلزم منه محذور، إذ لا قبح في تقديم البيان على وقت الحاجة، بخلاف تأخيره عنه. منه مدّ ظلّه.
(صفحه418)
أمّا على الأوّل: فلما تقدّم(1) من أنّ التحقيق في وجه تقدّم الخاصّ على العامّعدم التنافي بينهما عرفا إذا صدرا في مقام التقنين والتشريع، سواء كانمتساويين في الظهور أو كان الخاصّ أظهر من العامّ أو بالعكس، فإذا قال: «لتكرم الفسّاق من العلماء» ثمّ قال بعد اُسبوع: «أكرم كلّ عالم» فلا يرى العرفبينهما تعارضا أصلاً، ولا يعمّهما الأخبار الواردة في المتعارضين والمختلفين.
فدعوى تقدّم النسخ على التخصيص في المقام، لدوران الأمر واقعبين تقييد الخاصّ بالعامّ وتخصيص العامّ بالخاصّ، وقلنا بتقدّم التقييدعلى التخصيص عند الدوران بينهما، ممنوعة، بأنّ تقدّم التقييد علىالتخصيص إنّما يكون فيما إذا كان بينهما تعارض، كالعامّين من وجه، فإذقال: «أكرم العلماء» وقال أيضاً: «لا تكرم الفاسق» يتعارضان فيمادّة الاجتماع، ويقدّم العامّ على المطلق، لكونه بيانا له وقاطعا لصحّةاحتجاج العبد به كما تقدّم(2)، ولولاه لرجعنا في مورد الاجتماع إلى أخبارالعلاج، بخلاف العموم والخصوص المطلقين، إذ لا تعارض بينهما عرفا فيوعاء التقنين.
ومنه ظهر وجه تقدّم التخصيص على النسخ على تقدير استفادة الاستمرارمن كون الخاصّ قضيّة حقيقيّة، فإنّ القضيّة الحقيقيّة ـ كما عرفت آنفا ـ تدلّعلى الاستمرار بنحو من العموم، فإذا كان الخاصّ الدالّ بالإطلاق علىالاستمرار مخصّصا للعامّ فالخاصّ الدالّ بالعموم عليه يكون مخصّصا لهبطريق أولى، فإنّه دليل لفظي، فهو أقوى من الإطلاق الذي ليس كذلك.
وبعبارة اُخرى: إذا كان قوله: «لا تكرم الفسّاق من العلماء» قضيّة حقيقيّة