(صفحه206)
وحاصل الكلام: أنّ الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنبالمغليّ إنّما يمكن بوجهين: أحدهما: الشكّ في رفع الحرمة والنجاسة عنهبالنسخ، ثانيهما: الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدّل بعض الحالات بعدفرض وجود العنب المغليّ بكلا جزئيه، كما إذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثه،ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كلّ من الوجهينكما تقدّم، وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي، ونحن لا نتصوّرللشكّ في بقاء النجاسة والحرمة للعنب المغليّ وجها آخر غير الوجهينالمتقدّمين، فالاستصحاب التعليقي بمعنى لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيودهوتبدّل بعض حالاته ممّا لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصّل(1)، إنتهىموضع الحاجة من كلامه رحمهالله ملخّصا.
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أنّ تفسير الاستصحاب التعليقي بما ذكره غير صحيح، لأنّ مهو مورد النقض والإبرام بين الأعلام في الاستصحاب التعليقي هو ما إذوردت قضيّة شرعيّة تعليقيّة وأردنا استصحاب نفس تلك القضيّة التعليقيّةعند الشكّ في بقائها، وأمّا ما ذكره هذا المحقّق الكبير فلا تعليق فيه أصلاً، فإنّالحكم الشرعي إذا تعلّق بموضوع مركّب من جزئين قد وجد أحدهما دونالآخر فلا تعليق في الحكم ولا في الموضوع، فإنّ الشارع إذا قال: «العنبالمغليّ حرام» كان مثل «جائني زيد العالم» فكما أنّ الثاني قضيّة تنجيزيّةفكذلك الأوّل.
- (1) فوائد الاُصول 4: 460 ـ 468.
ج6
نعم، إذا قال: «العنب إذا غلى يحرم» كان مشتملاً على التعليق، لكنّ المحقّقالنائيني رحمهالله ذهب إلى كون التعليق مربوطا بالموضوع الذي هو عنب، لبالحكم الذي هو الحرمة، مع أنّا نريد استصحاب الحكم لا الموضوع، فما هومعلّق على الغليان لا نريد استصحابه، وما نريد استصحابه لا يكون معلّقا،فالاستصحاب ليس تعليقيّا هاهنا أيضاً على مبنى المحقّق النائيني رحمهالله .
وأمّا قوله رحمهالله : «إنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده لا محالة»فهو ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله أيضاً، حيث ذهب إلى رجوع القيدإلى المادّة، خلافا للمشهور، فإنّهم قائلون برجوعه إلى الهيئة، وللبحث عنهمحلّ آخر، وهو مبحث الواجب المشروط، فتفسير الاستصحاب التعليقي بمذكره تفسير بما لا يرضى صاحبه.
وأمّا قوله: «يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحووجود وتقرّر في الوعاء المناسب له» فإنّه وإن كان صحيحا، إلاّ أنّ الحكمالمعلّق على شيء يكون موجودا قبل تحقّق قيده، فإنّ وجود كلّ حكم بحسبه،فالحكم الفعلي لا يوجد إلاّ بعد تحقّق القيد، وأمّا الحكم التعليقي فيوجد بمجرّدجعل الشارع، وإن أبيت عن ذلك فراجع وجدانك هل يمكن لك القول بأنّ مبعد قول الشارع: «العنب يحرم إذا غلى» وما قبله سواء في عدم وجود الحكمبالحرمة أصلاً؟ فالحكم التعليقي يكون موجودا قبل تحقّق الغليان، فلا مانعمن استصحابه.
وبهذا ظهر ضعف ما أفاده رحمهالله في الهامش من أنّ المنع من جريانالاستصحاب التعليقي لا يتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه منقيوده ـ كما لا محيص عنه ـ بل يكفي كون الشرط علّةً لحدوث النجاسةوالحرمة للعنب، فإنّه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا حرمة أيضاً، لانتفاء
(صفحه208)
المعلول بانتفاء علّته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، غايته أنّه في الموضوعيدور بقاء الحكم أيضاً مدار بقاء الموضوع وفي العلّة يمكن أن يكون علّةللحدوث فقط، فالاستصحاب التعليقي لا يجري على كلّ حال(1)،إنتهى كلامه رحمهالله .
وجه الضعف أنّ النجاسة والحرمة الفعليّة تتوقّف على الغليان، لا النجاسةوالحرمة التعليقيّة، فإنّهما معلولتان لجعل الشارع لا للغليان، فإذا قال الشارع:«العنب إذا غلى يحرم وينجس» ثبتت الحرمة والنجاسة التعليقيّة وإن لم يغلبعدُ.
وفي كلام المحقّق النائيني رحمهالله مواضع اُخر للنظر أعرضنا عنها حذرا منالتطويل.
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
والشيخ الأعظم رحمهالله حيث ذهب إلى رجوع القيود إلى المادّة أنكر جريانالاستصحاب التعليقي، لأنّ معنى الاستصحاب التعليقي هو استصحاب الحكمالتعليقي، وليس لنا حكم تعليقي على مبناه كي نستصحبه.
ولأجل ذلك سلك في المقام مسلكا آخر، وهو إجراء استصحاب تنجيزيينتج نتيجة الاستصحاب التعليقي حيث تمسّك باستصحاب سببيّة المعلّق عليهللمعلّق، أو استصحاب الملازمة بينهما، فنقول: الغليان سبب لحرمة العنبالمغليّ، وبعد صيرورته زبيبا نشكّ في بقاء السببيّة، فيجري استصحابها، أونقول: حرمة العنب لازم لغليانه، وبعد صيرورته زبيبا نشكّ في بقاء الملازمةبينهما، فيجري استصحابها(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 467، التعليقة 1.
ج6
هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله في الرسائل.
البحث حول نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المسألة
أقول: قد عرفت أنّ في كون السببيّة ونحوها مجعولةً شرعا ثلاثة أقوال(1):
الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله من عدم إمكان جعلها أصلاً، فعليه ليجري استصحاب السببيّة ونحوها كما لا يجري الاستصحاب التعليقي علىزعمه.
الثاني: ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» ـ وهو الحقّ ـ منإمكان جعلها بنحو الاستقلال، بل وقوعه كذلك في لسان الشرع، فإنّ قولهتعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» ظاهر في جعل البيع سببا للملكيّة، فإنّ الحلّيّة فيهظاهرة في الحكم الوضعي لا التكليفي، أي أمضى اللّه البيع وجعله سببللملكيّة.
وعليه فلا إشكال في جريان استصحاب السببيّة ونحوها إلاّ أنّ قولنا: «إنجائك زيد فأكرمه» وقول الشارع: «العنب يحرم إذا غلى» ظاهر في جعلالحكم التكليفي، لا الوضعي، ولا كليهما، وأمّا لو كانت لنا قضيّة شرطيّةشرعيّة ظاهرة في جعل الشرط سببا للمشروط فلا مانع من جرياناستصحابه عند الشكّ في بقائه.
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ استصحاب السببيّةمثبت، إذ لا أثر له إلاّ ترتّب المسبّب عند وجود السبب، وهو حكم العقل،مثلاً لو كان غليان العنب سببا لحرمته فعند تحقّق الغليان يحكم العقل بترتّب
- (1) فرائد الاُصول 3: 221.
(صفحه210)
الحرمة عليه، فكيف يستصحب السببيّة عند الشكّ فيها لأجل أثر عقلي، أوشرعي مترتّب عليه؟!
ويمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب إذا كان من المجعولات الشرعيّة فقدعرفت(1) أنّه يترتّب عليه آثاره العقليّة والشرعيّة المترتّبة عليها، كما يترتّبعليها الآثار الشرعيّة بلا واسطة، ألا ترى أنّا لو استصحبنا وجوب صلاةالجمعة يترتّب عليه وجوب الإطاعة مع كونه حكما عقليّا؟
الثالث: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله من كون السببيّة وأمثالهمجعولةً تبعا للتكاليف، فلا يمكنه إجراء استصحابها مع قوله رحمهالله برجوع القيد فيالقضيّة الشرطيّة دائما إلى المادّة، لا إلى الهيئة، يعني رجوعه إلى الموضوع، لإلى الحكم، إذ لا منشأ لانتزاع السببيّة بناءً على رجوع القيد إلى المادّة، فإنّالمولى إذا قال: «إن جائك زيد فأكرمه» ثمّ صار العبد شاكّا في بقاء وجوبإكرامه عقيب مجيئه لأنّه كان صديقا للمولى عند صدور الحكم ثمّ زالصداقته، لم يكن المجيء شرطا لوجوب الإكرام على مذهب الشيخ رحمهالله كيينتزع سببيّته له ويجري استصحابها عند الشكّ في بقائها.
إن قلت: لعلّه قال بمقالة المحقّق النائيني رحمهالله من كون الموضوع في مثل هذهالقضيّة مركّبا من جزئين، وهما الشرط والمشروط، فكأنّه قال: «زيد الجائييجب إكرامه» والموضوع يكون بمنزلة العلّة للحكم، فلا إشكال في انتزاعالسببيّة.
قلت: هذا لا يختصّ بالقضايا التعليقيّة، فإنّ نسبة الموضوع إلى الحكم فيالقضايا التنجيزيّة أيضاً كنسبة العلّة إلى المعلول، فإنّ الخمر في قول الشارع:«الخمر حرام» علّة للحرمة، فكيف خصّ رحمهالله استصحاب السببيّة إلى القضاي