(صفحه378)
عرضا»(1) صحيح متين.في حكم العامّ والخاصّ الواردين في مقام التقنين
حكم العامّ والخاصّ الواردين في مقام التقنين
ثمّ إنّ التعارض والتنافي لدى العرف في الكلامين الصادرين من المتكلّمينمختلف، فإنّ الكلام قد يصدر من مصنّفي الكتب ومتعارف الناس في محاوراتهمالعاديّة ممّا لم يتعارف فيها إلقاء العمومات والمطلقات ثمّ بيان المخصّصاتوالمقيّدات وقرائن المجازات بعدها، وقد يكون صادرا من مقنّني القوانينومشرّع الشرايع ممّا يتعارف فيها ذلك، فإنّك ترى في القوانين العرفيّة إلقاءالكلّيّات في فصل وبيان حدودها ومخصّصاتها في فصول اُخر، فمحيط التقنينوالتشريع غير محيط الكتب العلميّة والمحاورات العرفيّة المتداولة، ولهذا ترىأنّ فيلسوفا أو اُصوليّا لو ادّعى قاعدة كلّيّة في فصل ثمّ ادّعى خلافها في بعضالموارد يقال: تناقض في المقال، وهكذا الفقهاء، لأنّ المتون الفقهيّة والرسائلالعمليّة وضعت لنقل الشرع لا للتشريع.
ولكنّ العرف والعقلاء لا يرون التناقض في محيط التقنين والتشريع بينالعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، مع أنّ تحقّق التناقض بين الإيجاب الكلّيوالسلب الجزئي وكذا العكس أمر واضح ضروري، لكن لمّا شاع وتعارف فيوعاء التقنين ومحيط التشريع ذلك لا يعدّونه تناقضا.
ولأجل هذا نفى اللّه تعالى وقوع الاختلاف في القرآن بقوله: «وَلَوْ كَانَ مِنْعِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَـفًا كَثِيرًا»(2) مع أنّ فيه العامّ والخاصّ والمطلقوالمقيّد ولم يستشكل أحد بوقوع الاختلاف فيه من هذه الجهة.
ج6
والشاهد على عدم تحقّق التعارض عرفا بين العامّ والخاصّ في محيطالتقنين والتشريع عدم جواز التمسّك بالعموم إلاّ بعد الفحص عن المخصّصواليأس عن الظفر به، بخلاف العامّ الوارد في المحاورات العرفيّة والكتبالعلميّة، حيث لا مانع من التمسّك بالعموم من دون فحص.
فعلى هذا وجه تقدّم الخاصّ على العامّ هو عدم تحقّق التنافي والتعارضبينهما عرفا، ولا فرق في ذلك بين كونهما متساويين في الظهور وبين كونالخاصّ أظهر من العامّ أو بالعكس.
ثمّ إنّ كلام المحقّقين مختلف في وجه تقديم الخاصّ على العامّ:
كلام الشيخ في ذلك
فالشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله بعد بيان معنى الورود والحكومة قالما حاصله: ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة جارٍ في الاُصول اللفظيّةأيضاً، فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة علىالمجاز(1)، فإن كان المخصّص مثلاً دليلاً علميّا كان واردا(2) على العامّ، لأنّأصالة العموم كانت مشروطة بعدم العلم بالتخصيص، والعلم به هاهنحاصل، فلا موضوع لها.
وإن كان المخصّص ظنيّا(3) معتبرا كان حاكما عليه، لأنّ معنى حجّيّة الظنّجعل احتمال الخلاف بمنزلة العدم، فأنت عالم بالتخصيص في نظر الشارعتعبّدا.
- (1) التخصيص عند الشيخ رحمهالله مستلزم للمجازيّة، ولأجل ذلك لم يقل: «على المجاز أو التخصيص».منه مدّ ظلّه.
- (2) الحقّ هو التعبير بالتخصّص، لا الورود، لأنّه بعد العلم بالتخصيص ارتفع موضوع أصالة العموم حقيقةًوتكوينا، والورود هو رفع الموضوع تعبّدا. م ح ـ ى.
- (3) أكثر عنايته في هذه الصورة ظنّيته من حيث السند. منه مدّ ظلّه.
(صفحه380)
ويحتمل أن يكون واردا عليه في هذه الصورة أيضاً بناءً على كون اعتبارأصالة العموم مشروطا بعدم التعبّد بالتخصيص، لا بعدم العلم به، فحالها حالالاُصول العقليّة، فكما أنّ الأمارات تكون واردة عليها تكون واردة علىأصالة العموم أيضاً.
ثمّ أمر بالتأمّل، ولعلّ وجهه ضعف هذا الاحتمال، لأنّ الظاهر اشتراطأصالة العموم بعدم العلم بالتخصيص، لا بعدم التعبّد به.
ثمّ قال: هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدمالقرينة، وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبةأو من غيرها فالظاهر أنّ المخصّص النصّ وارد على العامّ وإن كان النصّ ظنّيمن جهة السند، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّيّة الظنّ بإرادة الحقيقة الذي هومستند أصالة الظهور فرضا مقيّد بعدم وجود ظنّ معتبر على خلافه، فإذوجد ارتفع موضوع ذلك الدليل، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل.
ثمّ قال: ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد في كلام أحد ولا نجد من أنفسنموردا يقدّم فيه العامّ على الخاصّ، وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة،فلو كان حجّيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه لوجدمورد نفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العامّ حتّى يقدّم عليه أومكافئته له حتّى يتوقّف، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العامّوالخاصّ فضلاً عن أن يرجّح عليه.
ثمّ استثنى موردا بقوله: نعم، لو فرض الخاصّ ظاهرا(1) خرج من النصّوصار من باب تعارض الظاهرين، فربما يقدّم العامّ، كما إذا كان أقوى ظهورمن الخاصّ، أو يتوقّف، كما إذا كانا متساويين في الظهور(2).
- (1) أي لو كان الخاصّ ـ مكان الظنّية من حيث السند ـ ظنّيّا بحسب الدلالة. منه مدّ ظلّه.
ج6
هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله في المسألة.
نقد كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في وجه تقدّم الخاصّ على العامّ
وفيه: مضافا إلى أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة في العامّ كما حقّق فيمحلّه(1)، وإلى أنّه لا يكون لنا اُصول متعدّدة لفظيّة، بل أصل واحد ـ وهوأصالة الظهور(2) ـ وكلّ من أصالة الحقيقة والعموم والإطلاق وعدم القرينةمن مصاديقها، فلا يصحّ قوله: «هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور منحيث أصالة عدم القرينة» فإنّ الأصلين لا يكونان متعدّدين حتّى يبتنيأحدهما على الآخر، وأيضاً قد يجري أصالة الظهور في المعنى المجازي، كما إذقال: «رأيت أسدا يرمي» فكيف يمكن أن يكون أصالة الظهور من حيثأصالة عدم القرينة مع أنّ القرينة في المثال موجودة؟! فليس لنا إلاّ أصل لفظيواحد، وهو أصالة الظهور، ودليل حجّيّتها بناء العقلاء.
أنّ(3) كون حجّيّة الظنّ بإرادة الحقيقة مقيّدا بعدم وجود ظنّ معتبر علىخلافه ممّا لا دليل عليه، لأنّ الدليل على حجّيّته بناء العقلاء، فلو كان لنا عامّوخبر واحد معتبر أخصّ منه لكان بناء العقلاء حاكما بحجّيّة الظنّ بإرادةالعموم وبحجّيّة الخبر الواحد كلتيهما، من دون أن تكون حجّيّة أحدهما مقيّدةبعدم الآخر عندهم.
وأمّا عدم وجدان مورد يقدّم فيه العامّ على الخاصّ وإن فرض كونهأضعف الظنون المعتبرة فليس لأجل كون حجّيّة ظهور العامّ معلّقا على عدم
- (2) راجع ص278 ـ 287 من الجزء الثالث.
- (3) أصالة الظهور عبارة اُخرى عن أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة. منه مدّ ظلّه.
- (4) مبتدء مؤخّر لـ «فيه». م ح ـ ى.
(صفحه382)
الظنّ المعتبر على خلافه، فإنّه ممنوع كما عرفت، بل لأجل عدم تحقّق التعارضوالتنافي عرفا بين العامّ والخاصّ في مقام التقنين والتشريع كما عرفت.
وبهذا ظهر ضعف ما ذهب إليه في آخر كلامه من تعارض العامّ والخاصّإذا كانا متساويين في الظهور بل تقدّمه عليه إذا كان أقوى ظهورا منه، فإنّهكلام لا قائل به، وهو مخالف لطريقة العقلاء، فإنّهم لا يلاحظون الأقوائيّة فيالظهور بين العامّ والخاصّ الواردين في مقام التقنين، لعدم تحقّق المنافاةوالمعارضة عندهم بينهما كما عرفت.
هذا ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله في وجه تقدّم الخاصّ على العامّ وجوابه.
نظريّة صاحب الكفاية في المقام ونقده
وقال المحقّق الخراساني رحمهالله : إنّ وجهه هو أظهريّة الخاصّ من العامّ أو كونهنصّا والعامّ ظاهرا(1).
وفيه: منع كون الخاصّ الظاهر أظهر من العامّ دائما، فإنّ قولنا: «أهن كلّعالم فاسق» ليس بأظهر من قولنا: «أكرم كلّ عالم» لأنّ هيئة الأمر ومادّته فيكليهما سواء، وكلمة «كلّ» في كليهما بمعنى واحد، و«العالم» فيهما مفاده واحد،و«الفاسق» وإن كان في الخاصّ فقط، إلاّ أنّه لا يوجب أظهريّته من العامّ، لأنّهلا يدلّ إلاّ على المتلبّس بالفسق.
وأمّا تعيين الخاصّ في العالم الفاسق وشمول العامّ له في ضمن سائر العلماءفهو مربوط بمقام الانطباق، لا بمقام الدلالة ولسان الدليل، والظهور وقوّتهوضعفه يرتبط بمقام الدلالة لا بمقام الانطباق.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في وجه تقدّم الخاصّ على العامّ