(صفحه352)
قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» كلّ شيء لم يعلم نجاسته فهوطاهر.
ومعلوم أنّه لا خصوصيّة للعلم، بل المراد منه هو الحجّة، فمدلول البراءةالشرعيّة هو رفع التكليف الذي لم تقم عليه حجّة شرعيّة أو عقليّة، ومدلولقاعدة الحلّيّة هو إباحة كلّ شيء لم تقم على حرمته حجّة، ومدلول قاعدةالطهارة هو طهارة كلّ شيء لم تقم حجّة على قذارته، سواء كانت الحجّة قطعأو أمارةً معتبرة أو غير ذلكمن الحجج.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ ورود الاستصحاب على الاُصول الشرعيّةأيضاً.
ويمكن تقريبه بوجهين:
الأوّل: أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» بدلالته اللفظيّة يدلّ على وجودالحجّة في مورده، لأنّك قد عرفت أنّ مفاده «لا تنقض الحجّة باللاحجّة»فهو يدلّ على أنّ الحجّة التي قامت على حدوث حكم أو موضوع في السابقحجّيّتها باقية في الزمان اللاحق(1) أيضاً، فعلى هذا لا يبقى موضوع للاُصولالشرعيّة، فالاستصحاب وارد عليها.
إن قلت: كيف يكون التقدّم بنحو الورود؟ مع أنّ أخبار الاستصحابـ على هذا ـ تعرّضت جهة من جهات أدلّة الاُصول الشرعيّة التي لم تتعرّضلها نفسها، وبعبارة اُخرى: دليل الاستصحاب بدلالته رافع لموضوع هذهالاُصول، لا بوجوده، فلا محالة يكون حاكما عليها، لا واردا.
قلت: إنّ الحكومة لا تتحقّق إلاّ إذا كان الدليل الحاكم بدلالته متعرّض
- (1) لكن حجّيّتها بالنسبة إلى الحدوث وجدانيّة وبالنسبة إلى البقاء تعبّديّة بمعونة أخبار الاستصحاب.منه مدّ ظلّه.
ج6
لجهة لم يتعرّضها الدليل المحكوم وكان صدوره بلحاظ شرح الدليل المحكوموتفسيره، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم لكان صدوره غير معقول، والمقامليس كذلك، لأنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» دليل مستقلّ غير صادربلحاظ تفسير أدلّة الاُصول الشرعيّة، ألا ترى أنّ صدوره معقول ولو لم يكنلنا اُصول شرعيّة أصلاً؟
الثاني: أنّ نفس وجود دليل الاستصحاب حجّة ورافع لموضوع هذهالاُصول، وعلى هذا كونه واردا عليها واضح.
والحاصل: أنّ الاستصحاب وارد على الاُصول العمليّة الاُخر، عقليّة كانتأو شرعيّة.
وعلم ممّا ذكرنا أنّ الأمارات كما تتقدّم على الاستصحاب تكون متقدّمةعلى سائر الاُصول أيضاً، لأنّ تقدّم الأمارات على الاستصحاب يستلزمتقدّمها على ما يتقدّم عليه الاستصحاب بطريق أولى.
تعارض الاستصحابين
إنّ للمحقّق الخراساني رحمهالله كلاما في تصوير تعارض الاستصحابين، لكنّهناقص يحتاج إلى تكميل، وهو أنّ التعارض بينهما على أقسام:في تعارض الاستصحابين
الأوّل: أن لا نعلم بارتفاع الحالة السابقة في أحدهما، بل يحتمل بقائهما، إلأنّ المكلّف لا يتمكّن من العمل بهما، كما إذا وجب عليه أمران مع تمكّنه منالعمل بهما ثمّ عرض له الشكّ في بقاء وجوبهما وعرض له أيضاً عدم القدرة إلعلى أحدهما.
قال رحمهالله : فهو من باب تزاحم الواجبين، فكما أنّك تكون مخيّرا بين الواجبينالقطعيّين إذا لم تكن قادرا على كليهما، فهاهنا أيضاً تكون مخيّرا بين الواجبين
(صفحه354)
المستصحبين.
الثاني: ما إذا علم انتقاض الحالة السابقة في أحدهما إجمالاً، فتارةً لا يكونالشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر، كما إذا كان لنا إناءان طاهران ثمّوقع قطرة من الدم مثلاً في أحدهما لا على التعيين، وتارة اُخرى يكون مسبّبعنه، إمّا شرعا، كما إذا غسلنا الثوب النجس بماء مشكوك الطهارة والنجاسةمع كونه طاهرا سابقا، فيتعارض استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسةالثوب، للعلم بكذب أحدهما، أو عادةً، كما إذا شككنا في حياة زيد وفي نباتلحيته، ففي الأوّل يجري استصحاب الحياة، وفي الثاني استصحاب عدم النبات،وهما متعارضان، للعلم بكذب أحدهما، إذ الشكّ في الثاني مسبّب عن الأوّلعادةً، فإن كان حيّا نبتت لحيته عادةً، وإن لم تنبت فلا يكون حيّا، أو عقلاً،كالشكّ في حياة زيد وفي بلوغه عشرين سنة، فاستصحاب الحياة يعارضاستصحاب عدم بلوغه عشرين سنة، للعلم بكذب أحدهما عقلاً(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله بتكميل منّا.
ملاك تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي
فإن كانت السببيّة شرعيّة فلا إشكال في تقدّم الاستصحاب السببي علىالمسبّبي، إنّما الإشكال والنزاع في وجهه وأنّ تقدّمه عليه بنحو الحكومة أوالورود أو غيرهما؟
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في ذلك
ذكر الشيخ رحمهالله له وجوها نشير إلى أهمّها، وهو اثنان ذكرهما دفعا لإشكال
ج6
أورده على نفسه:
فقال في بيان الإشكال: وقد يشكل بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسةالثوب المغسول به كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه، وحكم الشارعبعدم النقض نسبته إليهما على حدّ سواء، لأنّ نسبة حكم العامّ إلى أفراده علىسواء، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أوّلاً حتّى يجب نقضاليقين بالنجاسة، لأنّه مدلوله(1) ومقتضاه.
والحاصل: أنّ جعل شمول حكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعضالأفراد عن الحكم أو عن الموضوع كما في ما نحن فيه فاسد بعد فرض تساويالفردين في الفرديّة(2)، إنتهى كلامه رحمهالله في بيان الإشكال.
ثمّ أجاب عنه أوّلاً: بأنّ السبب مقدّم على المسبّب رتبةً، وهذا يوجبشمول دليل الاستصحاب له قبل شموله للمسبّب(3).
وثانيا: بأنّه لا محذور في شموله للسبب، فإنّ جريان الاستصحاب في الشكّالسببي رافع لموضوع الشكّ المسبّبي، فلا يبقى له مورد أصلاً، ولا إشكال فيه.
بخلاف جريانه في الشكّ المسبّبي، لأنّه حينئذٍ إمّا يجري في ناحية السببأيضاً أم لا، فعلى الأوّل يقع التعارض بينهما، للعلم بكذب أحدهما، وعلىالثاني لا وجه لخروج السبب عنه إلاّ التخصيص، لوضوح أنّ الشكّ في بقاءطهارة الماء من موارد قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» فلا محالة يكون
- (1) يعني لأنّ نقض اليقين بالنجاسة مدلول الحكم ببقاء اليقين بالطهارة. م ح ـ ى.
- (2) فرائد الاُصول 3: 397.
- (3) فلو شمل المسبّب أيضاً لزم كون المتقدّم متأخّرا وبالعكس، وهو محال.
وعبارة الشيخ رحمهالله بالنسبة إلى الجواب الأوّل هكذا: «وإن شئت قلت: إنّ حكم العامّ من قبيل لازم الوجودللشكّ السببي كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه، فلا يوجد في الخارج إلاّ محكوما، والمفروض أنّالشكّ المسبّبي أيضاً من لوازم وجود ذلك الشكّ، فيكون حكم العامّ وهذا الشكّ لا زمان لملزوم ثالث فيمرتبة واحدة، فلا يجوز أن يكون أحدهما موضوعا للآخر، لتقدّم الموضوع طبعا»، إنتهى. م ح ـ ى.
(صفحه356)
خروجه عنه تخصيصا، والتخصيص وإن لم يكن في نفسه ممنوعا إلاّ أنّه فيالمقام يستلزم الدور، لأنّه يتوقّف على شمول «لا تنقض» للشكّ المسبّبي،وشموله له يتوقّف على تخصيصه بالنسبة إلى الشكّ السببي، وهذا دور مصرّح.
وبالجملة: لا محذور في جريان الاستصحاب في السبب بخلاف جريانه فيالمسبّب(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله في الجواب عن الإشكال.
وتبعه المحقّق الخراساني رحمهالله في هذا الجواب الأخير وجعله السرّ في تقديمالاستصحاب السببي على المسبّبي(2).
نقد ما أفاده الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني
وفيه: أنّ تقدّم السبب على المسبّب رتبةً عقلي لا يفهمه العرف الذيتكون الخطابات الشرعيّة ملقاةً إليه، والتقدّم الزماني الذي يدركه العرفلا يتحقّق بينهما، لأنّهما متّحدان زمانا، فهما فردان من «لا تنقض» ويشملهمعلى حدّ سواء.
وأمّا ما أفاده من أنّ تخصيص دليل الاستصحاب بالنسبة إلى الشكّ السببييستلزم الدور، فهو أيضاً ممنوع، لأنّه بعد ما كان الملاك في فهم الخطاباتالشرعيّة هو العرف لا العقل فكلّ من السبب والمسبّب فرد لدليلالاستصحاب وجدانا، وخروج كلّ منهما عنه لا يرتبط بشموله للآخر وليتوقّف عليه.
الحقّ في المسألة
- (1) فرائد الاُصول 3: 397.