والذي يكون من شرائط الحجّيّة هو عدم المخالفة بالتباين، فلا منافاة بينجعل مخالفة الكتاب ملاكا لعدم الحجّيّة في بعض الأخبار وبين جعلها ملاكللمرجوحيّة بالنسبة إلى حجّة اُخرى في بعض آخر(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
للكتاب بالعموم والخصوص المطلق أو من وجه، فهي تختصّ بالمخالفة بمعنىالتباين.
بخلاف الطائفة الثانية، فإنّه لا مانع من كون المخالفة فيها بمعناها الوسيع.
وبالجملة: تحمل الطائفة الاُولى من الأخبار ـ بمقتضى القرينة الخارجيّةالقطعيّة ـ على المخالفة بالتباين، وأمّا الطائفة الثانية: فليس فيها قرينة صارفةتقتضي رفع اليد عن ظهور المخالفة في المعنى الأعمّ.
وحاصل الجميع: أنّ الخبر المخالف للقرآن لو لم يكن له معارض لا يطرحإلاّ إذا كانت مخالفته بالتباين، وأمّا لو كان له معارض فيطرح مطلقا، سواءكانت مخالفته بالتباين أو العموم والخصوص المطلق أو من وجه.
إن قلت: كيف يجعل مخالفة أحد الخبرين المتعارضين للقرآن ـ حتّى المخالفةبالتباين ـ موجبةً لترجيح الخبر الآخر مع أنّ المخالفة كذلك موجب لعدمحجّيّة المخالف ولو لم يكن له معارض؟!
قلت: مفاد الطائفة الثانية من الأخبار ـ أعني ما ورد في الخبرينالمتعارضين ـ وجوب أخذ الخبر الموافق للقرآن وطرح الآخر دون أن يكونلها مفهوم، فلا تدلّ على حجّيّة المخالف عند عدم التعارض(1).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه» مع توضيح منّا.
الروايات الواردة حول الخبر المخالف للعامّة
المبحث الثاني: في حال الأخبار الواردة في مخالفة العامّة، وهي أيضطائفتان:
الطائفة الاُولى: ما يظهر منها لزوم مخالفتهم وترك الخبر الموافق لهم مطلقا.
- (1) الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 78.
ج6
الطائفة الثانية: ما ورد في خصوص الخبرين المتعارضين.
فمن الاُولى: ما عن العيون بإسناده عن عليّ بن أسباط، قال: قلتللرضا عليهالسلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيهأحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال: «ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذأفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه»(1).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.
وهذا الحديث وإن كان خاليا عن ذكر الخبر، لكن في بعضها: «ما سمعتهمنّي يشبه قول الناس فيه التقيّة»(2).
ولا إشكال في كونه مربوطا بالخبر الموافق لهم.
ومن الثانية: مصحّحة عبدالرحمن بن أبي عبد اللّه، وفيها ـ بعد ذكر الترجيحبموافقة الكتاب ـ : «فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبارالعامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(3).
إلى غير ذلك من الأخبار التي منها ذيل المقبولة(4).
ولابدّ إمّا من طرح الطائفة الاُولى أو من حملها إلى صورةالتعارض، لوضوح حجّيّة الخبر الموافق للعامّة ما لم يكن لهمعارض.
وعلى أيّ حال لا إشكال في أنّ مخالفة العامّة من مرجّحات بابالتعارض.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ المرجّح المنصوص ينحصر في اُمور ثلاثة:
- (1) وسائل الشيعة 27: 115، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (2) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.
- (3) وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
(صفحه502)
موافقة الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامّة.
ثمّ إنّ الظاهر من مصحّحة عبد الرحمان هو وجوب العرض علىكتاب اللّه أوّلاً، ومع عدم وجدان الحكم فيه وجوب العرض علىأخبار العامّة، فمقتضاها هو الترتيب بينهما، كما أنّ ظاهر المقبولةهو الترتيب بين المرجّحات الثلاثة: موافقة الشهرة، ثمّ موافقة الكتاب،ثمّ مخالفة العامّة.
فظهر دفع الإشكال(1) في دلالة أخبار الترجيح على الوجوببالاختلافات الكثيرة في نفسها، لعدم الاختلاف فيها من حيث ترتيبالمرجّحات كما عرفت.
نعم، ذكر في بعضها جميع المرجّحات الثلاثة، وفي بعضها اثنانمنها، وفي بعضها واحد، لكن بعد حمل المطلق على المقيّد يرفع الاختلافبينها من هذه الجهة أيضاً، فصارت النتيجة وجوب الترجيحبالمرجّحات المذكورة على الترتيب المذكور، ومع فقدانها تصل النوبةإلى التخيير.
البحث في التعدّي من المرجّحات المنصوصة
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في ذلك
قال الشيخ الأعظم رحمهالله : ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار علىالمرجّحات الخاصّة، بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلافعلى وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن
- (1) تقدّم طرح الإشكال في ص489.
ج6
جماعة(1).
ثمّ استدلّ عليه بفقرات من روايات الترجيح:
منها: الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة والأوثقيّة في المرفوعة، فإنّ الترجيحبهما ليس إلاّ من حيث الأقربيّة إلى الواقع من دون دخالة سبب خاصّ فيه،وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة، حيث يحتمل فيهما اعتبار الأقربيّة من السببالخاصّ، فحينئذٍ يتعدّى منهما إلى كلّ مزيّة تكون الرواية من أجلها أقرب إلىالواقع.
ومنها: تعليله عليهالسلام الأخذ بالمشهور في المقبولة بقوله: «فإنّ المجمع عليه لريب فيه» فإنّ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ، ومعناه أنّ الريبالمحتمل في الشاذّ غير محتمل في المشهور، فيكون حاصل التعليل أنّ كلّما كانأقلّ احتمالاً لمخالفة الواقع يجب ترجيحه على غيره، فإذا كان لأحد المتعارضينمزيّة على الآخر، سواء كانت من المزايا المنصوصة أو غيرها يجب ترجيحهعلى الآخر، لكونه أقلّ ريبا منه(2).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله في المسألة.
نقد كلام الشيخ الأنصاري قدسسره في المسألة
ويرد على الأوّل: أنّ المرفوعة ليست بحجّة، لضعفها سندا، وأنّ الترجيحبالأصدقيّة ونحوها في المقبولة مربوطة بباب الحكم والقضاء، كما تقدّم(3).
وعلى الثاني: أنّ الحكم إذا كان حكما واحداً مشتملاً على التعليل فلا ريبفي أنّ العرف يحكم بأنّ تمام الملاك لهذا الحكم هو التعليل المذكور في الكلام،