ج6
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى أنّ وجهه إطلاق أدلّة الأمارات،فإنّ الأمارات حاكية عن مدلولها المطابقي والالتزامي كليهما، ومقتضىإطلاق أدلّتها اعتبارها ولزوم تصديقها في كلا المدلولين، فهي حجّة بالنسبةإلى لوازم مؤدّاها وملزوماته وملازماته، كما أنّها حجّة بالنسبة إلى نفسالمؤدّى.
وأمّا الاُصول فلا إطلاق في أدلّتها، لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطبفيها، وهو آثار نفس المستصحب بلا واسطة شيء(1).
نقد كلام صاحب الكفاية في المسألة
وفيه: أنّ الإطلاق والتقييد من أوصاف الأدلّة اللفظيّة، فظاهر قوله رحمهالله : «إنّوجه الفرق إطلاق أدلّة الأمارات دون الاُصول» أنّ أدلّة الأمارات مع كونهلفظيّة مطلقة تعمّ مدلولها المطابقي والالتزامي كليهما، لتماميّة مقدّمات الحكمةفيها، بخلاف أدلّة الاُصول، لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيها مع أنّعدمه من مقدّمات الحكمة، فقوله: «صدّق العادل» مثلاً مطلق دون قوله: «لتنقض اليقين بالشكّ».
وهذه الدعوى فاسدة عندنا، لأنّ الشارع إذا ألزمنا بقبول قول العادليمكن أن يلزمنا به في خصوص مدلوله المطابقي فقط، وهو حياة زيد في المثال،دون لازمه، وهو بلوغه ثمانين عاماً حتّى يترتّب عليه أثره الشرعي، أعنيوجوب التصدّق بعشرة دراهم.
لا يقال: كيف يمكن التفكيك بين الشيء وبين لازمه أو ملزومه أو ملازمه؟
فإنّه يقال: نعم، لا يمكن التفكيك تكويناً، لأنّا إذا علمنا أو ظننّا بحياة زيد
(صفحه236)
مثلاً علمنا أو ظننّا بلوازمه وملزوماته وملازماته لا محالة، ولكنّه يمكنتشريعاً، إذ لا مانع من أن يجعل الشارع خبر الثقة مثلاً حجّة لنا في مدلولهالمطابقي دون الالتزامي.
فكما أنّ أدلّة الاُصول لا إطلاق لها لتحقّق القدر المتيقّن في مقام التخاطب،كذلك أدلّة الأمارات لو كانت لفظيّة.
نعم، إن كان دليلها بناء العقلاء ـ كما هو التحقيق ـ كانت معتبرة في مدلولهالالتزامي، كالمطابقي، لأنّ العمل بخبر الثقة مثلاً عند العقلاء لا يكون إلاّ لأجلالوثوق والاطمينان، وإذا حصل الوثوق بشيء حصل أيضاً بلوازمهوملزوماته وملازماته، لما تقدّم من عدم إمكان التفكيك بينهما تكويناً،فالعقلاء يعملون بخبر الثقة في كلا مدلوليه، والشارع أمضى بنائهم على ذلكولم يجعل له حجّيّة جديدة كما هو الفرض والحقّ.
والحاصل: أنّ دليل حجّيّة الأمارات لو كان لفظيّاً لم يكن مثبتاتهحجّة، لعدم الفرق حينئذٍ بينها وبين الاُصول من هذه الجهة، لأنّ قوله:«صدّق العادل» مثلاً جعل خبر العادل حجّة، وما أخبر به العادل فيالمثال هو حياة زيد، فلا وجه للتعدّي منه إلى لوازمه أو ملزوماتهأو ملازماته، لأنّه لم يخبر بها، كما أنّ قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»صدر في مورد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وهي في المثال حياة زيد،فلا وجه للتعدّي إلى لوازمها وملزوماتها وملازماتها، لعدم تعلّق اليقينوالشكّ بها.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
وبهذا ظهر ضعف ما قاله المحقّق النائيني رحمهالله في المقام، من أنّ المجعول في باب
ج6
الطرق والأمارات إنّما هو الطريقيّة والكاشفيّة، ولازمه حجّيّة المثبتات، وفيباب الاُصول هو مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل، وهو لا يقتضيحجّيّتها(1).
وجه الضعف: أنّ طريقيّة الأمارات وكاشفيّتها لو كانت مجعولة(2)تعبّداً ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فغاية ما يدلّ عليه الجعل هو طريقيّتهوكاشفيّتها بالنسبة إلى نفس مؤدّاها، ألا ترى أنّه إذا قال مثلاً: «جعلت خبرالثقة طريقاً إلى الواقع وكاشفاً عنه» فهو يقتضي أنّ خبر الثقة كاشف عمّأخبر به، ولا يقتضي طريقيّته وكاشفيّته بالنسبة إلى مثبتات ما أخبر به، لأنّهلم يخبر بها؟
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
وقال الشيخ الأعظم رحمهالله : إنّ الوجه في عدم اعتبار مثبتات الاُصولأنّ اللوازم العقليّة والعاديّة ليست تحت جعل الشارع، ووجوب ترتيبالآثار المستفاد من دليل الاستصحاب لا يعقل إلاّ في الآثار القابلة للجعلالشرعي، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتّب آثار الحياة فيزمان الشكّ هو الحكم بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله، لا حكمهبنموّه ونبات لحيته، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع، فإذا لم يعقلجعل اللوازم العقليّة والعاديّة لم يعقل أيضاً جعل الآثار الشرعيّةالمترتّبة عليها(3).
بيان ما هو الحقّ في المسألة
- (1) فوائد الاُصول 4: 484 ـ 491.
- (2) أي لا إمضاءاً لبناء العقلاء. م ح ـ ى.
- (3) فرائد الاُصول 3: 233.
(صفحه238)
أقول: والتحقيق يقتضي البحث في مقامين:
أ ـ في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة، كما إذنذرنا تصدّق عشرة دراهم عند بلوغ زيد عشرين سنة أو عند نبات لحيته،فإذا استصحبنا حياة زيد فهل يثبت لازمه العقلي، وهو بلوغه عشرين سنة،أو العادي، وهو نبات لحيته، ليترتّب عليه أثره الشرعي، وهو وجوبالتصدّق أم لا؟
ب ـ في ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم الشرعيّة، كما إذا نذرنالتصدّق لو كان التصرّف في مال زيد حراما حرمةً حادثةً في الزمانالحاضر(1)، فإذا استصحبنا حياة زيد فلا إشكال في ترتّب لازمه الشرعي،وهو حرمة التصرّف في ماله، فهل يثبت أيضاً أثر هذا اللازم، وهو وجوبالتصدّق أم لا؟
وإنّما قيّدنا الحرمة بحدوثها في الزمان الحاضر، لأنّ محلّ النزاع ـ كما قلنا(2) في اللوازم التي لا تكون لها حالة سابقة متيقّنة، وإلاّ فكانت اللوازم نفسهمجرى الاستصحاب، وحيث إنّ التصرّف في مال زيد وتقسيمه بين الورثة كانحراما في السابق فلابدّ من فرض حرمة جديدة غير ما كان في السابق حتّىتكون من مصاديق محلّ النزاع.
وما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام متين، إلاّ أنّه معبسط الكلام خلط بين المقامين، والحقّ تفكيكهما والبحث في كلّ منهما مستقلاًّ.
البحث حول الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة
- (1) يعني زمان استصحاب الحياة. م ح ـ ى.
ج6
أمّا المقام الأوّل: فالحقّ فيه عدم حجّيّة مثبتات الاُصول، والسرّ فيه مأفاده سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه»:
قال ما حاصله: وأمّا الاُصول ـ وعمدتها الاستصحاب ـ فالسرّ في عدمحجّيّة مثبتاتها يتّضح بعد التنبيه على أمرين:
أحدهما: أنّ اليقين إذا تعلّق بشيء يكون له لازم وملازم وملزوم ويكونلكلّ منها أثر شرعي يصير تعلّق اليقين به موجبا لتعلّق يقين آخر على لازمهويقين آخر على ملازمه ويقين آخر على ملزومه، لأنّ اليقين صفة قائمةبطرفين: أحدهما: نفس الإنسان، والآخر: هو الشيء المتيقّن، فيتكثّر بتكثّرأحدهما أو كليهما، وحيث إنّه إذا كان شيء متيقّنا كان لازمه وملزومهوملازمه أيضاً كذلك لا محالة ـ لما قلنا من عدم إمكان التفكيك بينهما تكوينا فاليقين بالشيء يوجب اليقين بلازمه وملزومه وملازمه، ويترتّب آثارجميعها، لأنّ اليقين بكلّ متعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتيب أثره الشرعي،وإن كان بعض اليقينات معلولاً لبعض آخر.
ثانيهما: أنّ الكبرى الكلّيّة في الاستصحاب، وهي قوله عليهالسلام : «لا ينقضاليقين أبدا بالشكّ»(1) إمّا أن يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيه مقامالمتيقّن في ترتيب الآثار، فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن علىالمشكوك فيه ـ كما هو الظاهر من الشيخ ـ وإمّا أن يكون المراد منها إبقاء اليقينفي اعتبار الشرع وإطالة عمره وعدم نقضه بالشكّ، لكونه أمرا مبرما لينقض بما ليس كذلك، فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاءاليقين الطريقي في مقام العمل، كما هو المختار.
وكيف كان، فلا يترتّب على الاستصحاب آثار اللوازم العقليّة والعاديّة،
- (1) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.