ج6
وجود الرافع لا يكون إلاّ للشكّ في موضوعه، والموضوع لابدّ أن يكون محرزمعلوم البقاء في الاستصحاب ـ كما سيجيء ـ ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكونالشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع، وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعدادالحكم، لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلاّ بارتفاع موضوعه، فرجع الأمربالأخرة إلى تبدّل العنوان، ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّفحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام، ومعلوم أنّ هذه القضيّةغير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر مع العلم بتحقّقه سابقاً، لأنّقولنا: «المضرّ قبيح» حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبداً ولا ينفع في إثباتالقبح عند الشكّ في بقاء الضرر، ولا يجوز أن يقال: إنّ هذا الصدق كان قبيحسابقاً فيستصحب قبحه، لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذالصدق، بل عنوان «المضرّ»، والحكم له مقطوع البقاء، وهذا بخلاف الأحكامالشرعيّة، فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراماً ولا يعلم أنّ المناطالحقيقي فيه باقٍ في زمان الشكّ أو مرتفع، فيستصحب الحكم الشرعي(1).
إنتهى كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة الشيخ الأنصاري من قبل المحقّق النائيني رحمهماالله
واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأمرين بقوله:
والحقّ فساد هذا التفصيل وعدم التفاوت في جريان الاستصحاب بذلك،فإنّ ما أفاده من لزوم كون موضوع حكم العقل مبيّناً بتمامه عنده إنّما يصحّ فيمإذا كان حكم العقل بقبح شيء منحلاًّ إلى حكمين: أحدهما: الحكم بقبحه،وثانيهما: الحكم بعدم قبح غيره، نظير القضيّة الشرطيّة الدالّة على المفهوم،
(صفحه18)
ومن الضروري أنّ الأمر ليس كذلك، إذ هو فرع أن يكون العقل محيطاً بتمامالجهات الواقعيّة المحسّنة والمقبّحة، وكثيراً ما يستقلّ العقل بحسن شيء أوقبحه باعتبار كونه القدر المتيقّن في ذلك، وإن كان يحتمل بقاء ملاك حكمه معانتفاء بعض الخصوصيّات(1) أيضاً، فإذا فرضنا الشكّ في بقاء الحكم العقلي معانتفاء بعض الخصوصيّات الغير المقوّم للموضوع بنظر العرف فلا محالة يشكّفي بقاء الحكم الشرعي أيضاً ويجري الاستصحاب، لاتّحاد القضيّة المتيقّنة معالمشكوكة.
سلّمنا أنّ موضوع حكم العقل لابدّ من كونه مبيّناً عنده بتمامه والقطعبانتفائه عند انتفاء بعض خصوصيّاته، إلاّ أنّ ما أفاده من ارتفاع الحكمالشرعي بارتفاعه ممنوع، فإنّ الحكم الشرعي إنّما يتبع الحكم العقلي في مقامالاستكشاف والإثبات، لا في مقام الثبوت والواقع، فربما يكون قيد له دخلفي استقلال العقل بشيء إلاّ أنّه غير دخيل فيما هو الملاك عند الشارع أصلاً،فإنّ الحكم الشرعي تابع للمصالح والمفاسد النفس الأمريّة، كانت مستكشفةعند العقل أو لم تكن، فإذا فرضنا ارتفاع الحكم العقلي التابع لاستكشافهالملاك الواقعي، فلا يلزم من ذلك ارتفاع الحكم الشرعي التابع لنفس الملاكالواقعي المحتمل بقائه، لاحتمال عدم دخل تلك الخصوصيّة فيه حدوثاً وبقاءً أوبقاءً فقط، فلا محالة يشكّ في بقاء الحكم الشرعي، ومع عدم كون تلكالخصوصيّة مقوّمة للموضوع بنظر العرف بل من حالاته الواسطة في ثبوتالحكم للموضوع تكون القضيّة المشكوكة متّحدة مع القضيّة المتيقّنة، فيجريالاستصحاب لا محالة(2)، إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) مثاله: أنّ العقل يدرك قبح الكذب الضارّ غير النافع لأحدٍ قطعاً، وأمّا إذا انتفى عنوان «الضارّ» أو عنوان«غير النافع لأحد» يشكّ في قبحه وعدمه، لشكّه في بقاء ملاك حكمه وعدمه. منه مدّ ظلّه.
ج6
البحث حول ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله
وقد اُجيب عن الإشكال الأوّل بأنّ كون العقل جازماً بالمناط في الموضوعالمركّب على سبيل الإجمال والإهمال غير معقول، لأنّه يقطع بأنّ أيّ جزء منأجزاء الموضوع دخيل في مناط حكمه وأيّ جزء منها ليس له دخل فيه.
أقول: العقل القاطع بذلك هو العقل الكامل، كعقل المعصومين عليهمالسلام ، وأمّعقولنا الناقصة التي نبحث فيها فقد تجزم بالمناط في موضوع مركّب علىسبيل الإجمال والإهمال، فتحكم بالحسن أو القبح في صورة اجتماع عدّة اُمورمن باب القدر المتيقّن، ومع ذهاب بعض الأجزاء والحيثيّات يتردّد العقل فيبقاء حكمه، لعدم علمه بكون هذا الذاهب هل هو دخيل في مناط حكمه أملا؟ لعدم إحاطته بجميع وجوه الأشياء وجميع المناطات، فيستصحب الحكمالشرعي المستنبط من العقلي، فما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في الوجه الأوّلصحيح متين.
لكن يمكن المناقشة في إشكاله الثاني بأنّه لا يعقل ارتفاع الحكم العقليوبقاء الحكم الشرعي التابع له، لأنّ مقتضى الملازمة بينهما انتفاء اللازم عندانتفاء الملزوم، فلا يمكن القطع بارتفاع الملزوم ـ وهو الحكم العقلي ـ والشكّ فيارتفاع اللازم الذي هو الحكم الشرعي.
نعم، يمكن أن يكون للحكم الشرعي ملاك أوسع من ملاك الحكم العقلي،فيكون للشارع حكم بعد انتفاء حكم العقل، لكن هذا حكم مستقلّ شرعيغير تابع للحكم العقلي ولابدّ له من دليل غير الملازمة بين حكم العقلوالشرع.
- (1) أجود التقريرات 4: 21، وفوائد الاُصول 4: 321.
(صفحه20)
وبعبارة اُخرى: إذا انتفى بعض خصوصيّات الموضوع الذي له دخل فيحكم العقل وانتفى حكم العقل ينتفي بتبعه الحكم الشرعي التابع له قطعاً، فليجري الاستصحاب فيه ولو كان في المورد حكم شرعي آخر بحسب البقاء،فهو مشكوك الحدوث، فلا يكون في المقام حكم شرعي مقطوع الحدوثومشكوك البقاء حتّى يستصحب.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
والتحقيق في المقام ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّ ظلّه العالي»في الرسائل، وهو أنّ القول بعدم جريان استصحاب الحكم الشرعي المكشوفمن الحكم العقلي غير تامّ وإن قلنا بعدم تحيّر العقل في موضوع حكمه وعدمترديده في ملاكه فلا يخلو إمّا أن يقطع بعدم مدخليّة الخصوصيّة المرتفعةفيدرك بقاء حكمه قطعاً، وإمّا أن يقطع بمدخليّتها فيقطع بارتفاع حكمه، وليكون في البين شقّ ثالث.
بيان ذلك يحتاج إلى ذكر مقدّمة، وهي أنّ العقل يحكم بحسن عنوان مبيّنوقبح عنوان مبيّن آخر، ثمّ قد يتصادق العنوانان في مصداق خارجي ويقعالتزاحم بين الحكمين، فيقدّم العقل ما هو أقوى ملاكاً، وإن تساويا حكمبالتخيير عملاً.
مثال ذلك: أنّ العقل يدرك قبح الكذب وحسن إنقاذ المؤمن من الهلاك، فلوكان الإنقاذ متوقّفاً على الكذب تصادق في الكذب الموجب للإنقاذ عنوانان:أحدهما قبيح، والآخر حسن، لكنّ العقل بعد ملاحظة ملاك كلّ منهما يقطعبأنّ مناط حسن الإنقاذ أقوى من مناط قبح الكذب، فيحكم بحسن الإنقاذوعدم قبح الكذب هاهنا.
ج6
هذا محصّل ما ذكره مقدّمة.
ثمّ قال: إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد يصدق عنوان حسن على موجودخارجي من غير أن يصدق عليه عنوان قبيح، فيكون الموضوع الخارجيحَسَناً محضاً حُسْناً ملزماً، فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي، ثمّ يشكّ فيصدق عنوان قبيح عليه ممّا هو راجح مناطاً، فيقع الشكّ في الموضوعالخارجي(1) بأنّه حسن أو قبيح، وقد يكون بعكس ذلك.
مثال الأوّل: أنّ إنقاذ الغريق حسن عقلاً، فقد يغرق مؤمن، فيحكم العقلبلزوم إنقاذه ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه، ثمّ يشكّ في تطبيق عنوان«السابّ للّه ورسوله» عليه في حال الغرق، حيث يكون تطبيق هذا العنوانعليه ممّا يوجب قبح إنقاذه، ويكون هذا المناط أقوى من الأوّل، أو دافعاً له،فيشكّ(2) العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه، ويشكّ في حكمه الشرعي.
ومثال الثاني: أنّه قد يكون حيوان غير مؤذٍ في الخارج، فيحكم العقل بقبحقتله، ثمّ يشكّ ـ بعد رشده ـ في صيرورته مؤذياً، فيشكّ في حكمه الشرعي،فاستصحاب الحكم العقلي في هذه المقامات ممّا لا مجال له، لأنّ حكم العقلمقطوع العدم، فإنّ حكمه فرع إدراك المناط، والمفروض أنّه مشكوك فيه، وأمّالحكم الشرعي المستكشف منه قبل الشكّ في عروض العنوان المزاحم عليهفلا مانع من استصحابه إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوعالخارجي لا يضرّان ببقاء الموضوع عرفاً ـ كالمثالين المتقدّمين ـ فإنّ عنوان«السابّ» و«المؤذي» من الطوارئ التي لا يضرّ عروضها وسلبها ببقاء
- (1) أي الموضوع الخارجي الذي كان حسناً قطعاً قبل الشكّ في صدق عنوان قبيح عليه. م ح ـ ى.
- (2) الشكّ في حكمه هذا ليس لأجل الشكّ في حدود موضوع حكمه حتّى يلزم الخروج عن الفرض، بللأجل الشكّ في تحقّق عنوان «السابّ للّه ورسوله»، ولو قطع بتحقّق هذا العنوان لقطع بقبح الإنقاذ، ولوقطع بعدم تحقّقه لقطع بحسنه، فموضوعه مبيّن كما هو الفرض. منه مدّ ظلّه.