مذهب العامّة في الشكّ بين الأقلّ والأكثر هو البناء على الأقلّ والإتيان بمشكّ فيه متّصلاً، ومذهب الشيعة هو البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك فيهمنفصلاً، فهل هذه الرواية ظاهرة في الأوّل حتّى تكون تقيّةً أو في الثاني حتّى
تكون لبيان الحكم الواقعي؟
قيل: إنّها ظاهرة في بيان الحكم الواقعي، لأنّ قوله: «بفاتحةالكتاب» ظاهر في تعيّن الفاتحة، وهذا لا يلائم الاتّصال، إذ حكمالركعتين الأخيرتين في الصلاة الرباعيّة هو التخيير بينهموبين التسبيحات.
لكن ظاهر قوله عليهالسلام : «يركع ركعتين» عقيب سؤال زرارة، وأيضظاهر قوله: «قام فأضاف إليها اُخرى» هو الاتّصال وصدورها علىوجه التقيّة.
والحكم بتعيّن الفاتحة ليست على خلاف التقيّة، لما حكي عن الشافعيوأحمد بن حنبل وبعض آخر من فقهاء العامّة القول بتعيّن الفاتحة في الركعاتكلّها، فالظاهر منها هو إتيان الركعتين في الفرع الأوّل وإضافة الركعة في الفرعالثاني متّصلةً.
والذي يبعّد هذا الاحتمال هو الفرع الثاني المذكور في الرواية، لأنّه لا يرتبطبسؤال زرارة، فكيف ذكره الإمام عليهالسلام من قبل نفسه وبيّن حكمه تقيّةً مع أنّالضرورات تتقدّر بقدرها؟!
فهذا يرشدنا إلى أنّ الإمام عليهالسلام مع كونه في مقام التقيّة، أراد بيان المذهبالحقّ أيضاً، فالرواية لم تصدر للتقيّة المحضة، بل إنّه عليهالسلام أفتى بما هو ظاهر فيخلاف المذهب الحقّ تقيّةً وأراد بيانه في حجاب التقيّة.
الوجوه المحتملة في الحديث
ثمّ إنّ في الرواية احتمالات:
ج6
نظريّة المحدّث الكاشاني رحمهالله فيه
منها: أنّ قوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعني به لا يبطل الركعاتالمحرزة بسبب الشكّ في الزائدة بأن يستأنف الصلاة، بل يعتدّ بالمتيقّنة، و«ليُدخل الشكّ في اليقين» أي لا يعتدّ بالمشكوك فيها بأن يضمّها إلى المحرزةويتمّ بها الصلاة من غير تدارك، «ولا يخلط أحدهما بالآخر» عطف تفسيرللنهي عن الإدخال، «ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» أي الشكّ في الركعة الزائدة،بأن لا يعتدّ بها، بل يأتي بالزيادة على الإيقان، «ويتمّ على اليقين» أي يبنيعلى المتيقّن فيها(1).
هذا ما أفاده المحدّث الفيض الكاشاني رحمهالله حول الحديث.
وعليه لم يتعرّض قوله عليهالسلام : «ولا يُدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهمبالآخر» لذكر فصل الركعة ووصلها في الفرعين، ولم يتعرّض أيضاً قوله: «لينقض اليقين بالشكّ» للاستصحاب كما هو واضح، فعلى هذا الاحتمال لا تكونالرواية دالّة على الاستصحاب.
ومنها: أنّ قوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يكون بالمعنى الذيذكره المحدّث الكاشاني رحمهالله ، ولكن قوله: «لا يدخل الشكّ في اليقين» وقوله:«لا يخلط أحدهما بالآخر» يعني بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافةللاحتياط، بأن يُراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في المتيقّنة وعدم خلطأحدهما بالآخر، فيكون المراد بالشكّ واليقين: المشكوك فيها والمتيقّنة، أيأضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين والركعة إلى الثلاث المحرزة، لكنلا يُدخل المشكوك فيها في المتيقّنة ولا يخلط إحداهما بالاُخرى، بأن يأتي
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 104، نقلاً عن المحدّث الفيض الكاشاني رحمهالله .
(صفحه80)
بالركعة والركعتين منفصلة لا متّصلة، لئلاّ يتحقّق الاختلاط وإدخال المشكوكفيها في المتيقّنة.
ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل، حيث إنّ الظاهر منالنهي عن الإدخال والخلط أنّهما تحت اختيار المصلّي، فيمكن له الإدخالوالخلط وتركهما، والركعة المشكوك فيها إمّا هي داخلة بحسب الواقع فيالمتيقّنة أو لا، وليس إدخالها فيها وخلطها بها باختياره(1)، بخلاف الركعة التييريد إضافتها إليها، فإنّ له الإدخال والخلط، بإتيانها متّصلة، وعدمها، بإتيانهمنفصلة.
لا يقال: إنّ هذا الاحتمال مخالف لظهور الصدر في أنّ الركعة أو الركعتينلابدّ أن يؤتى بها متّصلة.
فإنّه يقال: ظهور الذيل في الانفصال محكّم على ظهور الصدر في الاتّصال،فإنّهما من قبيل القرينة وذي القرينة، ولا شكّ في تقدّم ظهور القرينة علىظهور ذيها، بل لا ينعقد للكلام ظهور أصلاً ما لم يتمّ الكلام، فكأنّه قال: «قامفأضاف إليها اُخرى من غير اختلاط الركعة المضافة المشكوك في كونهالرابعة أو الخامسة بالركعات المتيقّنة».
وعلى هذا الاحتمال أيضاً لا تكون الرواية دليلاً على الاستصحاب.
ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في معنى الحديث
ومنها: ما احتمله الشيخ الأعظم قدسسره ، وهو أنّ قوله عليهالسلام : «قام فأضاف
- (1) ولأجل هذا نحتاج إلى القول بأنّ مراد المحدّث الكاشاني رحمهالله أنّ قوله عليهالسلام : «لا يُدخل الشكّ في اليقين وليخلط أحدهما بالآخر» يكون نهياً عن البناء على أنّ المشكوك فيها دخلت في المتيقّنة واختلطت بهواقعاً، يعني يكون نهياً عن البناء على الأكثر، وهذا خلاف ظاهر الرواية، لأنّ متعلّق النهي هو نفسالإدخال والخلط، لا البناء على الدخول والاختلاط. منه مدّ ظلّه.
ج6
إليها اُخرى» إمّا أن يُراد منه إضافتها إليها متّصلةً، فكان المرادمن اليقين والشكّ في قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» اليقين بعدم إتيانالرابعة والشكّ في إتيانها، فكان مفاده الاستصحاب، إلاّ أنّ هذخلاف المذهب الحقّ، فلابدّ من أن يكون صادراً تقيّةً، ولا يجوز الاستدلال بمصدر كذلك.
إن قلت: نعم، يمكن القول بأنّه عليهالسلام أراد بقوله: «قام فأضاف إليها اُخرى»الاتّصال تقيّةً، ولكن قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» صدر لبيان قاعدة كلّيّةواقعيّة، فيكون دليلاً على الاستصحاب، ولا مانع من جواز التمسّك به، لعدمصدوره تقيّةً.
قلت: هذا خلاف الظاهر، إذ الظاهر تطابق المعلول مع علّته في كونهما علىخلاف المذهب الحقّ أو على وفقه، وبعبارة اُخرى: بيان قاعدة كلّيّة مطابقةللواقع وتطبيقها على مورد تقيّةً بحيث كان المورد خارجاً عن تحتها واقعخلاف الظاهر.
وإمّا أن يُراد منه(1) إتيان ركعة منفصلة، فكان المراد من اليقين والشكّ فيقوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» اليقين بالبراءة والشكّ فيها، فيكون المراد منقوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءةبالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه، وقد اُريدمن اليقين في بعض الأخبار هذا النحو من العمل، كما في قوله عليهالسلام : «إذا شككتفابن على اليقين»(2).
واليقين بالبراءة لا يحصل بما فعله العامّة من إتيان المشكوكة
- (1) أي من قوله: «قام فأضاف إليها اُخرى». م ح ـ ى.
- (2) هذا هو موثّقة إسحاق بن عمّار الآتية في ص93.