(صفحه124)
ويرد على ما ذهب إليه في القسم الأوّل:
أوّلاً: أنّ الجمع بين القول بكون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّةللتكليف من الأحكام الوضعيّة وبين القول بعدم كونها مجعولةً تشريعاً أصلممّا لا ينبغي، لأنّا نقول في مقام التقسيم:
الأحكام الشرعيّة على قسمين: تكليفي ووضعي، وعلى ما ذهب إليه المحقّقالنائيني(1)، المجعولات الشرعيّة على ثلاثة أقسام: حكم تكليفي وحكم وضعيوماهيّة مخترعة.
فكيف كان، الحكم الوضعي يكون قسماً من المجعولات الشرعيّة، ولا يعقلكون المقسم مجعولاً شرعيّاً دون قسمه، فلابدّ له رحمهالله إمّا من الالتزام بعدم كونالسببيّة للتكليف وأمثالها من الأحكام الوضعيّة، وإمّا من الالتزام بكونها منالمجعولات الشرعيّة.
وثانياً: أنّ للتكليف معنيين: أحدهما: فعل المكلِّف، أي الإيجاب والتحريمونحوهما، وثانيهما: هو الحكم التكليفي، أعني الوجوب والحرمة ونحوهما،والمحقّق الخراساني رحمهالله خلط بينهما، فإنّ ما لا يمكن جعله تشريعاً هو ما يرتبطبالتكليف بالمعنى الأوّل، أعني السببيّة لما هو سبب لإيجاب الشارع مثلاً،وهكذا الشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة، فإنّ ما يرتبط بفعل الشارع ويكونمقدّمة له قد يكون أمراً قهريّاً غير اختياري، فكيف يمكن جعله تشريعاً؟
ألا ترى أنّ أوضح ما له دخل في عمل الشارع هو المصلحة والمفسدة فيموضوع الحكم على مذهب العدليّة، مع عدم إمكان جعلهما في عالم التشريعكما هو واضح.
ولكنّ التكليف المصطلح عليه بين الاُصوليّين هو التكليف بالمعنى الثاني،
ج6
ولا إشكال في إمكان جعل ما يرتبط به من المقدّمات تشريعاً، بل الظاهرجعله كذلك، لأنّ شرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ تستفاد من قوله تعالى:«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) ومانعيّة الحيضلوجوب الصلاة تستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك»(2) ورافعيّةالاضطرار لحرمة أكل الميتة ونحوه تستفاد من حديث الرفع، أعني قوله صلىاللهعليهوآله :«رفع ما اضطرّوا إليه»(3) ولو لم تكن الآية والروايتان ما استفدنا كونالاستطاعة شرطاً لوجوب الحجّ، ولا كون الحيض مانعاً لوجوب الصلاة، ولكون الاضطرار رافعاً للتكليف.
والعجب من صاحب الكفاية حيث ذهب في مبحث الواجب المشروط إلىأنّ الشرط في قولنا: «إن جاءك زيد فأكرمه» من قيود الهيئة التي هيالوجوب(4)، معذهابه هنا إلىكونالشرطيّة لما هو شرط للتكليف أمراً تكوينيّلا مجعولاً شرعيّاً، فإنّ المجيء لم يكن مؤثّراً في وجوب الإكرام لو لم يكن قولالمتكلّم: «إن جاءك زيد فأكرمه» فأين تأثير الشرط في الحكم تكويناً؟!
ولابدّ هاهنا من ذكر نكتة: وهي أنّ الشرط في باب التكاليف لا يكون مهو المقابل للسبب، بل هو أعمّ من كلّ ما لوجوده دخل في التكليف، إذ لم يعبّرفي الآيات والروايات عمّا له دخل في تحقّق التكليف إلاّ بالشرط، ولم يحضرنيورود رواية دالّة على كون الشيء الفلاني سبباً للتكليف الفلاني، بخلاف بابالأحكام الوضعيّة، فإنّ التعبيرات هناك تدلّ على سببيّة ما لوجوده دخلفيها، مثل أنّ الملاقاة سبب لنجاسة الملاقي، وعقد البيع سبب للملكيّة، وعقد
- (2) وسائل الشيعة 2: 287، كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب الحيض، الحديث 2.
- (3) كتاب الخصال: 417، باب التسعة، الحديث 9.
(صفحه126)
النكاح سبب للزوجيّة، ونحوها.
إن قلت: فكيف جعل زوال الشمس سبباً لوجوب الظهرين وغروبها سببلوجوب العشائين؟
قلت: التعبير في الروايات في موردهما أيضاً ورد بنحو القضيّة الشرطيّة،فعن أبي جعفر عليهالسلام قال: «إذا زالت الشمس دخل الوقتان: الظهر والعصر، فإذغابت الشمس دخل الوقتان: المغرب والعشاء الآخرة»(1).
وسائر الروايات أيضاً وردت بهذه الكيفيّة.
ولو فرضنا ورود رواية ظاهرة في سببيّة زوال الشمس وغروبها لوجوبالظهرين والعشائين فلابدّ من تفسيرها بهذه الروايات الدالّة على الشرطيّة.
حقّ المقال في كيفيّة الجعل في شرائط التكليف
ثمّ اعلم أنّ هذا القسم من الأحكام الوضعيّة يمكن جعلها تبعاً للتكليف،كأن يقال: «إن استطعتم يجب عليكم الحجّ» ويمكن جعلها بنحو الاستقلال،كأن يقال: «يجب عليكم الحجّ» ثمّ يقال في ضمن دليل آخر: «الاستطاعةشرط لوجوب الحجّ».
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في القسم الثاني
وأمّا ما ذهب إليه صاحب الكفاية في القسم الثاني ـ وهو أنّ الجزئيّةوالشرطيّة والمانعيّة لما هو جزء أو شرط أو مانع للمأمور به مجعولةٌ تبعللتكليف لا بالأصالة ـ فإن أراد به إمكان جعلها تبعاً فلا إشكال فيه، وأمّا إنأراد به انحصار جعلها كذلك وعدم إمكان جعلها بالأصالة ـ كما هو ظاهر
- (1) وسائل الشيعة 4: 125، كتاب الصلاة، الباب 4 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
ج6
كلامه ـ فهو ممنوع، فإنّه كما يمكن أن يقال: «صلِّ صلاة مشتملةً على السورة»يمكن أيضاً أن يُقال بعد إيجاب الصلاة: «السورة جزء للصلاة»، بل قوله: «لصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1) و«لا صلاة إلاّ بطهور»(2) ظاهر في جعل الفاتحةجزءً للصلاة بنحو الاستقلال وفي جعل الطهور شرطاً لها كذلك، لعدم اشتمالهمعلى التكليف.
وقوله تعالى: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»(3) يكون دالاًّ علىتعويض القبلة وأنّ استقبال الكعبة شرط للصلاة مكان استقبال المسجدالأقصى، لا أنّه تعالى رفع بهذه الآية الأمر بالصلاة إلى المسجد الأقصى وأمربالصلاة إلى المسجد الحرام حتّى يكون شرطيّة استقبال الكعبة للصلاة منتزعةعن التكليف.
الكلام حول القسم الثالث من الأحكام الوضعيّة
وأمّا القسم الثالث: فلنا فيه كلام مع الشيخ الأعظم، وكلام أيضاً معصاحب الكفاية.
نقد ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في المسألة
أمّا كلامنا مع الشيخ رحمهالله : فإنّه قال بكون الأحكام الوضعيّة كلّها منتزعةً عنالأحكام التكليفيّة ومجعولةً بتبعها، فنقول:
إن أراد به عدم إمكان جعلها بالأصالة، فهو ممنوع، لأنّا لا نرى اعتبارالملكيّة عقيب البيع مستحيلاً، بل ما يخطر بالبال عقيب عقد البيع والنكاح هو
- (1) مستدرك الوسائل 4: 158، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1.
(صفحه128)
حصول الملكيّة والزوجيّة، لا جواز مطلق التصرّفات وجواز الوطي مثلحتّى يترتّب عليهما الملكيّة والزوجيّة، وكذا إذا رأينا كتاباً في يد زيد مثلاً ليخطر بالبال إلاّ أنّه مالك له، ولو كان الملكيّة منتزعة عن جواز التصرّف فلابدّمن حضوره في الذهن أوّلاً ثمّ حضورها تبعاً له.
وإن أراد به ظهور ما ورد في الشريعة في الجعل التبعي ـ وإن كان الجعلالاستقلالي أيضاً ممكناً ـ فهو أيضاً ممنوع، لأنّ قوله: «من حاز ملك»(1) و«منأحيى أرضاً مواتاً فهي له»(2) ظاهر في اعتبار الملكيّة عقيب الحيازة والإحياء،من دون أن تكون مربوطة بالحكم التكليفي، وما دلّ على أنّه «يجوز للزوجالنظر إلى زوجته ويجوز للزوجة النظر إلى زوجها» ظاهر أيضاً في تحقّقالزوجيّة قبل الحكم بجواز النظر، لتقدّم الموضوع على الحكم، فجواز النظر أثرٌمترتّب على الزوجيّة لا منشأ لانتزاعها، وقوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ الناس مسلّطون علىأموالهم»(3) ظاهر أيضاً فيتقدّم كون شيءمالاً للشخص علىكونه مسلّطاًعليه.
نقد ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في القسم الثالث
وأمّا كلامنا مع صاحب الكفاية رحمهالله : فهو أنّ الظاهر أنّ المجعول في هذا القسمهو سببيّة عقد البيع والنكاح ونحوهما للملكيّة والزوجيّة ونحوهما، فهذا القسممن الأحكام الوضعيّة وإن لم تكن تابعةً للأحكام التكليفيّة إلاّ أنّ المجعولمستقيماً هو سببيّة العقود والإيقاعات ولا يكون المجعول ما حصل منها عقيبتحقّقها.
- (1) ما وجدت هذه العبارة في المجاميع الحديثيّة. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 25: 412، كتاب إحياء الموات، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 5.
- (3) بحار الأنوار 2 : 272، كتاب العلم، الباب 33، باب ما يمكن أن يستنبط من الآيات والأخبار من متفرّقاتاُصول الفقه، الحديث 7.