ج6
في أصالة تأخّر الحادث
أصالة تأخّر الحادث
التنبيه التاسع: إذا شككنا في أصل تحقّق حكم أو موضوع فلا إشكال فيجريان استصحاب عدمه، وأمّا إذا شككنا في تقدّمه وتأخّره بعد القطع بتحقّقهوحدوثه في زمان فتارةً: يلاحظ التقدّم والتأخّر بالإضافة إلى أجزاء الزمان،واُخرى: بالإضافة إلى حادث آخر.
فينبغي البحث في مقامين:
لحاظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى أجزاء الزمان
المقام الأوّل: فيما إذا لوحظ التقدّم والتأخّر بالإضافة إلى أجزاء الزمان، كمإذا شككنا في أنّ موت زيد هل حدث يوم الخميس أو الجمعة، فهل يجريالاستصحاب فيه أم لا؟
أقول: لا إشكال في استصحاب عدم تحقّقه في الزمان الأوّل وترتيب آثاره،وأمّا آثار تأخّره عن الزمان الأوّل فلا تترتّب، لكون الاستصحاب بالنسبةإليها مثبتا، حيث إنّ التأخّر لازم عقلي للمستصحب.
اللّهمّ إلاّ أن يدّعى خفاء الواسطة، لكنّه خلاف الظاهر، لما عرفت من أنّالواسطة الخفيّة ما لا يراها العرف، مع أنّ التأخّر ليس كذلك.
فالتعبير عن هذا الاستصحاب بـ «أصالة تأخّر الحادث» كما في كلماتهم
(صفحه274)
مبنيّ على التسامح، لعدم كون التأخّر ذا حالة سابقة متيقّنة، بل هو لازم عقليلما كان كذلك، أعني عدم التحقّق في الزمان الأوّل.
وكذلك لا تترتّب آثار حدوثه في الزمان الثاني، لكونه بالنسبة إليهأيضاً مثبتا، لأنّ حدوثه في الزمان الثاني لازم عقلي لعدم حدوثهفي الزمان الأوّل.
نعم، لو كان الحدوث عبارةً عن أمر مركّب من الوجود في الزمان الثانيوعدم الوجود في الزمان الأوّل لترتّب آثاره بذاك الاستصحاب، لثبوت كلجزئيه، أحدهما ـ أعني الوجود في الزمان الثاني ـ بالوجدان، والآخر ـ أعنيعدم الوجود في الزمان الأوّل ـ بالاستصحاب، ولا يجب أن يكونالمستحصب نفسه ذا أثر شرعي، بل يكفي كونه أحد أجزاء مركّب ذي أثرإذا اُحرز سائر الأجزاء من طريق آخر، ألا ترى أنّا إذا علمنا أنّ زيدا عادلثمّ صار مجتهدا وشككنا في بقاء عدالته يجري استصحاب العدالة لترتيبجواز تقليده، مع أنّ موضوع جواز التقليد مركّب من الاجتهاد والعدالة،لا العدالة فقط.
هذا، ولكن كون معنى الحدوث مركّبا خلاف الظاهر، لأنّه عبارة عن أمربسيط مقيّد ظاهرا، وهو الوجود المقيّد بكونه مسبوقا بالعدم.
فالحاصل: أنّا إذا علمنا بحدوث شيء وشككنا في تقدّمه وتأخّره بالنسبةإلى أجزاء الزمان يجري استصحاب عدمه في الزمان الأوّل لترتيب آثاره،أعني آثار هذا العدم، لا آثار تأخّره عن الزمان الأوّل، ولا آثار حدوثه فيالزمان الثاني.
لحاظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى حادث آخر
ج6
المقام الثاني: فيما إذا لوحظ الحادث بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثهأيضاً وشكّ في تقدّم ذلك عليه وتأخّره عنه.
وللمسألة صور كثيرة، لأنّ الحادثين إمّا أن يكونا مجهولي التاريخ أو يكونتاريخ أحدهما معلوما، وفي كلّ منهما إمّا أن يكون الأثر للوجود بنحو خاصّمن التقدّم أو التأخّر أو التقارن، أو للعدم كذلك، وفي كلّ منها إمّا أن يؤخذالوجود أو العدم بنحو كان التامّة وليس التامّة موضوعا للأثر أو بنحو كانالناقصة وليس الناقصة، وفي كلّ من هذه الصور إمّا أن يكون أحد الحادثينموضوعا للأثر، أو كلاهما، فهاهنا مسائل.
صور مجهولي التاريخ
المسألة الاُولى: فيما إذا كان تاريخ كليهما مجهولاً مع كون الأثر لوجود أحدالحادثين بنحو خاصّ مع أخذ هذا الوجود بنحو كان التامّة موضوعا للأثر،مثاله ما إذا علمنا بموت زيد وعمرو وشككنا في المتقدّم والمتأخّر منهما وكانالأثر مترتّبا على تقدّم موت زيد على موت عمرو(1).
ففي هذه الصورة يجري استصحاب عدم التقدّم لمنع الأثر.
لا يقال: عدم تقدّم موت زيد على موت عمرو لم يكن متيقّنا إلاّ بنحوالقضيّة السالبة بانتفاء الموضوع، ولا يجري الاستصحاب فيها.
فإنّه يقال: تقدّم موت زيد على موت عمرو لا يكون قضيّة، بل مفرد، لأنّهمفاد كان التامّة، لا الناقصة.
هذا إذا كان الأثر مترتّبا على تقدّم أحدهما على الآخر فقط، أو على تأخّره
- (1) كما إذا فرضنا أن يكون زيد كافرا، وابنه عمرو مسلما، فتقدّم موت زيد موضوع للأثر وهو الإرث، دونالعكس، لأنّ المسلم يرث من الكافر شرعا ولا يرث الكافر من المسلم، لأنّ الكفر من موانع الإرث.م ح ـ ى.
(صفحه276)
عنه، أو على تقارنه معه، وأمّا إذا كان كلّ من وجوداته الخاصّة موضوعا للأثرـ كأن يترتّب على تقدّمه عليه أثر وعلى تأخّره عنه أثر آخر وعلى تقارنه معهأثر ثالث ـ فاستصحاب عدم كلّ منها وإن أمكن جريانه في حدّ نفسه، إلاّ أنّهلا تجري، لكونها متعارضة، لأنّا نعلم بكذب أحدها واقعا.
وأمّا إذا كان الأثر لاثنين منها ـ كأن يترتّب على تقدّمه أثر وعلى تأخّرهأثر آخر من غير أن يكون تقارنه معه ذا أثر ـ فلا إشكال في جرياناستصحاب عدم كليهما، لعدم العلم بكذب أحدهما، فلا تعارض.
نعم، لو شككنا في التقدّم والتأخّر ولم نحتمل التقارن أصلاً لكانمتعارضين.
ومن هنا علم حال صورة كون كلّ من الحادثين بوجوده الخاصّ ذا أثر،كما إذا كان تقدّم كلّ منهما على الآخر ذا أثر شرعي، فإن احتملنا التقارن أيضيجري استصحاب عدم تقدّم كلّ منهما لنفي أثره، وإن لم نحتمله فلا، لتحقّقالتعارض.
وبالجملة: إذا استلزم جريان الاستصحابين كذب أحدهما في الواقع أو فيعلمنا فلا يجري الاستصحاب، وإلاّ فهو يجري.
المسألة الثانية من صور مجهولي التاريخ: ما إذا كان الأثر لوجود أحدالحادثين أو كليهما بنحو خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، مع أخذهموضوعا للأثر بنحو كان الناقصة، كما إذا كان الأثر في المثال المتقدّم مترتّبعلى كون موت زيد متّصفا بتقدّمه على موت عمرو، ففي هذه الصورة ليجري استصحاب وجود الموضوع لترتيب الأثر، ولا استصحاب عدمه لمنعالأثر.
أمّا الأوّل فواضح، فإنّ اتّصاف موت زيد بتقدّمه على موت عمرو
ج6
لم يكن متيقّنا، وكذلك الثاني، لأنّ عدم اتّصاف موت زيد بتقدّمهعلى موت عمرو أيضاً لم يكن متيقّنا إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع،إذ عدم الاتّصاف بالتقدّم سابقا إنّما هو لأجل عدم تحقّق الموت، ولا يجريالاستصحاب في هذا النوع من السالبة، لعدم اتّحاد القضيّتين، فإنّ القضيّةالمتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع، والمشكوكة ـ التي نريد إثباتها بالاستصحاب سالبة بانتفاء المحمول، وإن كان لفظهما واحداً، حيث نقول: لم يكن موتزيد متقدّما على موت عمرو، والآن نشكّ في كونه متقدّما عليه، فلفظالقضيّتين واحد، إلاّ أنّ الاُولى سالبة بانتفاء الموضوع، والثانية بانتفاء المحمول،كما هو واضح.
هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام مع توضيح منّا(1).
وهو متين، إلاّ أنّه ينافي ما ذهب إليه في مبحث العامّ والخاصّ، فإنّه قالهناك: إذا ورد الدليل بأنّ النساء يحضن إلى الخمسين إلاّ القرشيّة، فهي تحيضإلى الستّين، يجري استصحاب عدم القرشيّة لنفي حكم المخصّص(2)، مع أنّالقضيّة المتيقّنة ـ وهو عدم قرشيّة المرأة ـ سالبة بانتفاء الموضوع، فكيفتستصحب لإثبات السالبة بانتفاء المحمول؟!
وبالجملة: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله فيما نحن فيه صحيح متين،لا ما ذهب إليه في مبحث العامّ والخاصّ، وناقشنا في كلامه هناك أيضاً،فراجع(3).
المسألة الثالثة من صور مجهولي التاريخ: ما إذا كان الأثر لعدم أحدهما فيزمان حدوث الآخر مع أخذه موضوعا بنحو مفاد ليس الناقصة(4)، الذي
- (3) راجع ص317 ـ 327 من الجزء الثالث.
- (4) ظاهر هم أنّ «ليس» قسم واحد، وهو ليس الناقصة فقط، لكن كونها مقابلةً لـ «كان» يوجب أن تكون هيأيضاً على قسمين، فإذا قلنا: «ليس زيد» تكون تامّة، كما أنّ «كان» في قولنا: «كان زيد» تامّة، وإذا قلنا: «ليسزيد صائما» تكون ناقصة، كما أنّ «كان» في قولنا: «كان زيد صائما» ناقصة. منه مدّ ظلّه.