ج6
الطائفة الثانية: ما ورد في خصوص الخبرين المتعارضين.
فمن الاُولى: ما عن العيون بإسناده عن عليّ بن أسباط، قال: قلتللرضا عليهالسلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيهأحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال: «ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذأفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه»(1).
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.
وهذا الحديث وإن كان خاليا عن ذكر الخبر، لكن في بعضها: «ما سمعتهمنّي يشبه قول الناس فيه التقيّة»(2).
ولا إشكال في كونه مربوطا بالخبر الموافق لهم.
ومن الثانية: مصحّحة عبدالرحمن بن أبي عبد اللّه، وفيها ـ بعد ذكر الترجيحبموافقة الكتاب ـ : «فإن لم تجدوهما في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبارالعامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه»(3).
إلى غير ذلك من الأخبار التي منها ذيل المقبولة(4).
ولابدّ إمّا من طرح الطائفة الاُولى أو من حملها إلى صورةالتعارض، لوضوح حجّيّة الخبر الموافق للعامّة ما لم يكن لهمعارض.
وعلى أيّ حال لا إشكال في أنّ مخالفة العامّة من مرجّحات بابالتعارض.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ المرجّح المنصوص ينحصر في اُمور ثلاثة:
- (1) وسائل الشيعة 27: 115، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (2) وسائل الشيعة 27: 123، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.
- (3) وسائل الشيعة 27: 118، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
(صفحه502)
موافقة الشهرة، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامّة.
ثمّ إنّ الظاهر من مصحّحة عبد الرحمان هو وجوب العرض علىكتاب اللّه أوّلاً، ومع عدم وجدان الحكم فيه وجوب العرض علىأخبار العامّة، فمقتضاها هو الترتيب بينهما، كما أنّ ظاهر المقبولةهو الترتيب بين المرجّحات الثلاثة: موافقة الشهرة، ثمّ موافقة الكتاب،ثمّ مخالفة العامّة.
فظهر دفع الإشكال(1) في دلالة أخبار الترجيح على الوجوببالاختلافات الكثيرة في نفسها، لعدم الاختلاف فيها من حيث ترتيبالمرجّحات كما عرفت.
نعم، ذكر في بعضها جميع المرجّحات الثلاثة، وفي بعضها اثنانمنها، وفي بعضها واحد، لكن بعد حمل المطلق على المقيّد يرفع الاختلافبينها من هذه الجهة أيضاً، فصارت النتيجة وجوب الترجيحبالمرجّحات المذكورة على الترتيب المذكور، ومع فقدانها تصل النوبةإلى التخيير.
البحث في التعدّي من المرجّحات المنصوصة
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في ذلك
قال الشيخ الأعظم رحمهالله : ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار علىالمرجّحات الخاصّة، بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلافعلى وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن
- (1) تقدّم طرح الإشكال في ص489.
ج6
جماعة(1).
ثمّ استدلّ عليه بفقرات من روايات الترجيح:
منها: الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة والأوثقيّة في المرفوعة، فإنّ الترجيحبهما ليس إلاّ من حيث الأقربيّة إلى الواقع من دون دخالة سبب خاصّ فيه،وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة، حيث يحتمل فيهما اعتبار الأقربيّة من السببالخاصّ، فحينئذٍ يتعدّى منهما إلى كلّ مزيّة تكون الرواية من أجلها أقرب إلىالواقع.
ومنها: تعليله عليهالسلام الأخذ بالمشهور في المقبولة بقوله: «فإنّ المجمع عليه لريب فيه» فإنّ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ، ومعناه أنّ الريبالمحتمل في الشاذّ غير محتمل في المشهور، فيكون حاصل التعليل أنّ كلّما كانأقلّ احتمالاً لمخالفة الواقع يجب ترجيحه على غيره، فإذا كان لأحد المتعارضينمزيّة على الآخر، سواء كانت من المزايا المنصوصة أو غيرها يجب ترجيحهعلى الآخر، لكونه أقلّ ريبا منه(2).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ رحمهالله في المسألة.
نقد كلام الشيخ الأنصاري قدسسره في المسألة
ويرد على الأوّل: أنّ المرفوعة ليست بحجّة، لضعفها سندا، وأنّ الترجيحبالأصدقيّة ونحوها في المقبولة مربوطة بباب الحكم والقضاء، كما تقدّم(3).
وعلى الثاني: أنّ الحكم إذا كان حكما واحداً مشتملاً على التعليل فلا ريبفي أنّ العرف يحكم بأنّ تمام الملاك لهذا الحكم هو التعليل المذكور في الكلام،
(صفحه504)
فإذا قال: «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» نستفيد منه حرمة كلّ مسكر، لكنفيما نحن فيه خصوصيّة تقتضي عدم جواز إسراء الحكم إلى غير الشهرة ممّيوجب كون خبر أقلّ ريبا من معارضه، ولابدّ لتوضيح هذا المطلب من ذكرمقدّمة:
وهي أنّ الأحكام المندرجة تحت المقبولة تكون متعدّدة، لاشتمالها علىمرجّحات ثلاثة مترتّبة: الشهرة، ثمّ موافقة الكتاب، ثمّ مخالفة العامّة، والمرجّحالأوّل مشتمل على التعليل بـ «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» دون الأخيرين،ولا يمكن أن يكون علّة الترجيح بهما أيضاً عموم التعليل المذكور في الشهرةـ أعني أقلّيّة الريب ـ لاستلزامه بطلان الترتيب بينها، ضرورة أنّ جعل أشياءثلاثة من المرجّحات بملاك واحد يقتضي كون جميعها في عرض واحد، فليصحّ الترتيب بينها بتقديم الشهرة على موافقة الكتاب وتقديمها على مخالفةالعامّة.
على أنّ موافقة الكتاب ومخالفته بالعموم والخصوص المطلق من مرجّحاتالخبر الموافق على المخالف، مع أنّ الموافقة والمخالفة كذلك لا توجبان كونالموافق للعموم أقلّ ريبا من المخالف، ألا ترى أنّ المولى إذا قال: «أكرم العلماء»ثمّ ورد أنّه قال: «لا تكرم زيدا العالم» وورد أيضاً أنّه قال: «أكرم زيد العالم»لا يكون الأخير أقلّ ريبا من سابقه؟ كما أنّ الخبر المخالف للعامّة لا يكون أقلّريبا من الخبر الموافق لهم.
وبالجملة: إنّ المقبولة مشتملة على أحكام ثلاثة مترتّبة:
أ ـ الترجيح بالشهرة.
ب ـ الترجيح بموافقة الكتاب.
ج ـ الترجيح بمخالفة العامّة.
ج6
والحكم الأوّل معلّل بكون الخبر المشهور أقلّ ريبا من الخبر الشاذّ، ولكلّمن الحكمين الآخرين علّة اُخرى غير معلومة لنا.
إذا عرفت هذا فنقول: تعميم التعليل المذكور في الترجيح بالشهرة إلى كلّما يوجب كون خبر أقلّ ريبا من معارضه، يستلزم أن يكون الترجيح بأقلّيّةالريب مطلقا(1) مقدّما على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، لأنّهمقتضى قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» وهو مقدّم عليهما، وهل يلتزمالشيخ الأعظم رحمهالله بذلك؟!
على أنّ نفي الريب في قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» وإن كانإضافيّاً، إلاّ أنّه إضافي قريب بالحقيقي، بحيث يعدّه العرف ممّا لا ريب فيه،فلا يصحّ القول بالتعدّي إلى كلّ مزيّة توجب كون أحد الخبرين أقلّ ريبمن الآخر.
نعم، لو كان أدلّة التخيير مهملةً والقدر المتيقّن منها صورة التكافؤ من جميعالجهات، أو كان الدليل على التخيير هو الإجماع(2)، لا الأدلّة اللفظيّة ـ لقصورما دلّ منها سندا ـ كان لما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من التعدّي إلى المرجّحات غيرالمنصوصة وجه، لوجوب الرجوع إلى ذي المزيّة فيما إذا لم يكن لنا دليل علىالتخيير.
لكن قد عرفت عدم تماميّة الإجماع(3) وتماميّة بعض أخبار التخيير سندودلالةً(4)، ولا إشكال في أنّها مطلقة تشمل صورة وجود مزيّة في أحدالمتعارضين أيضاً، فتقيّد بالأخبار الدالّة على الترجيح بموافقة الشهرة وموافقة
- (1) أي سواء كانت أقلّيّة الريب ناشئةً عن موافقة الشهرة أو غيرها من المرجّحات غير المنصوصة. م ح ـ ى.
- (2) وهو دليل لبّي، والقدر المتيقّن منه أيضاً هو صورة التكافؤ من جميع الجهات. م ح ـ ى.