ج6
الفرد المردّد الذي يجري الاستصحاب فيه هو ما يكون مشكوك البقاء على كلّتقدير كما عرفت(1)، وإلاّ فلا تتّحد القضيّتان، ألا ترى أنّ القضيّة المتيقّنة فيالمقام تكون نجاسة أعلى العباء أو أسفله على الإجمال، بخلاف المشكوكة، فإنّلا نشكّ في نجاسة أحدهما على الإجمال بعد غسل الأسفل، بل نشكّ في نجاسةالأعلى فقط، للقطع بطهارة الأسفل.
نعم، لو شككنا في تطهير العباء بعد العلم الإجمالي بنجاسة أعلاه أو أسفلهلكان من قبيل استصحاب الفرد المردّد، لكنّه خارج عمّا نحن فيه.
وأمّا تنظير المقام بما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، فانهدم الطرف الشرقيمنها، فجوابه أوّلاً: أنّه لا إشكال في جريان استصحاب الكلّي في هذا المثالأيضاً، لأنّا بعد دخول زيد في الدار علمنا بوجود الإنسان فيها، وبعد انهدامالجانب الشرقي شككنا في بقائه، فيستصحب، فيجري في المثال استصحابالكلّي أيضاً كما يجري فيه استصحاب الفرد، لأنّك عرفت(2) أنّه لو كان للكلّيأثر شرعي لا يغني استصحاب الفرد عن استصحابه.
وثانياً: أنّ مسألة العباء تفارق هذا المثال من حيث المورد، إذ مسألة العباءتكون ذات أثر شرعي على كلّ تقدير، لأنّ النجس ـ سواء كان هو الأسفل أوالأعلى ـ يجب غسله واجتنابه، فالمتيقّن أمرٌ كلّي له فردان، بخلاف المثال، فإنّالأثر يكون لكون زيد في الدار، لا لكونه في الطرف الشرقي أو الغربي منها،فالمتيقّن فيه أمر جزئي، وهو كون زيد في الدار.
وبعبارة اُخرى: إنّ الموضوع في مسألة العباء هو المتنجّس، وهو مردّد بينالأسفل والأعلى، ولكلّ منهما أثر شرعي خاصّ به، وتعدّد الأثر كاشف عن
(صفحه160)
تعدّد الموضوع، فهو كلّي، بخلاف المثال، فإنّ الموضوع فيه هو كون زيد فيالدار، والأثر له من دون إضافته إلى الطرف الشرقي أو الغربي منها، ووحدةالأثر كاشفة عن وحدة الموضوع، فهو جزئي وشخصي، فقياس المقام بهذالمثال قياسٌ مع الفارق.
جواب المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» عن الشبهة العبائيّة ونقده
ثمّ إنّ بعض الأعلام أجاب عن الشبهة بوجه آخر، حيث قال:
فالإنصاف في مثل مسألة العباء هو الحكم بنجاسة الملاقي، لا لرفع اليد عنالحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيّدالصدر رحمهالله من أنّه على القول بجريان استصحاب الكلّي لابدّ من رفع اليد عنالحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، بل لعدم جريان القاعدة التي نحكملأجلها بطهارة الملاقي في المقام، لأنّ الحكم بطهارة الملاقي إمّا أن يكونلاستصحاب الطهارة في الملاقي، وإمّا أن يكون لجريان الاستصحابالموضوعي وهو أصالة عدم ملاقاته النجس، وكيف كان، يكون الأصلالجاري في الملاقي في مثل مسألة العباء محكوماً باستصحاب النجاسة في العباء،فمن آثار هذا الاستصحاب هو الحكم بنجاسة الملاقي، ولا منافاة بين الحكمبطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام للأصل الحاكمعلى الأصل الجاري في الملاقي، فإنّ التفكيك في الاُصول كثير جدّاً، فبعدملاقاة الماء مثلاً لجميع أطراف العباء نقول: إنّ الماء قد لاقى شيئاً كان نجساً،فيحكم ببقائه علىالنجاسة للاستصحاب، فيحكم بنجاسةالماء(1)، إنتهى كلامه.
لكنّه مبنيّ على عدم كون استصحاب نجاسة العباء بالنسبة إلى الحكم
- (1) مصباح الاُصول 3: 112.
ج6
بنجاسة ملاقيه أصلاً مثبتاً، وقد عرفت أنّه مثبت، فلا يتمّ ما أفاده هذا المحقّقالكبير، والحقّ في الجواب هو ما تقدّم(1).
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّه يجري الاستصحاب في القسم الثاني منالكلّي.
القسم الثالث من استصحاب الكلّي
الثالث: ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفردالمعلوم ارتفاعه، وهو يتصوّر على وجهين:
أحدهما: ما إذا كان منشأ الشكّ احتمال مقارنة فرد آخر لوجود الفردالمعلوم، بحيث احتمل اجتماعهما في الوجود.
وثانيهما: ما إذا كان منشأه احتمال حدوث فرد آخر مقارناً لزوال الفردالمعلوم. فهل يجري الاستصحاب في هذا القسم مطلقاً، أو لا يجري مطلقاً، وهوظاهر صاحب الكفاية، أو يجري في الصورة الاُولى دون الثانية، وهو ما قال بهالشيخ الأعظم في الرسائل؟ فيه ثلاثة أقوال.
ولابدّ قبل التحقيق في المسألة من ذكر نكتتين:
القول في استصحاب الأعراض ذوات المراتب
الاُولى: أنّ الشيخ رحمهالله بعد تقوية القول الأخير ـ وهو التفصيل بينالصورتين ـ استثنى مورداً من الصورة الثانية، وهو الأعراض ذوات المراتب،فذهب إلى جريان استصحاب الكلّي فيها حيث قال:
- (1) يعني الجواب المنقول عن الإمام الخميني«مدّ ظلّه» الذي قرّره المحقّق النائيني رحمهالله ببيان علمي وتقدّمفي ص157 ـ 159.
(صفحه162)
ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ما يتسامح في العرف فيعدّونالفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد، مثل ما لو علم السواد الشديدفي محلّ وشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد أضعف من الأوّل، فإنّه يستصحبالسواد(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
ويرد عليه أنّه ليس من ما نحن فيه؛ لأنّ الشدّة والضعف في السواد ونحوهوصفان له عرفاً(2)، كما أنّ الشباب والشيب وصفان لزيد مثلاً، فكما أنّهما ليوجبان تحقّق فردين من الإنسان فالشدّة والضعف أيضاً في نظر العرفلا يوجبان تحقّق فردين من السواد، فإذا شكّ في تبدّل السواد الشديد إلىالبياض أو إلى السواد الضعيف مع القطع بزوال شدّته يجري استصحاب نفسالسواد الأوّل، فهو من قبيل استصحاب الجزئي، لا الكلّي، كما أنّ استصحاببقاء زيد فيما إذا شككنا في أنّه هل هو مات أو لا مع القطع بزوال شبابهاستصحاب الجزئي لا الكلّي، وإن أبيت فراجع إلى وجدانك، فإنّك ـ إذا تبدّلاللون الشديد الذي في ثوبك إلى الضعيف ـ تقول: ضعف اللون، ولا تقول:انعدم اللون الأوّل وعرض على الثوب لون جديد، وهذا شاهد على أنّهما لونٌواحد، والشدّة والضعف حالتان له، فما استثناه الشيخ رحمهالله كان خارجاً عن محلّالنزاع رأساً وكان إخراجه من قبيل الاستثناء المنقطع.
القول في استصحاب الطلب عند زوال الوجوب
الثانية: إذا علم بوجوب شيء وقطع بزواله وشكّ في أنّه هل هو تبدّل إلىالاستحباب أو ارتفع رجحانه رأساً، كان من قبيل القسم الثالث من
- (1) فرائد الاُصول 3: 196.
- (2) بل السواد الشديد المتبدّل إلى الضعيف فرد واحد من السواد عقلاً أيضاً كما حقّق في محلّه، لكنّ الملاكفي باب الاستصحاب هو نظر العرف، لا العقل. منه مدّ ظلّه.
ج6
استصحاب الكلّي، لأنّه من قبيل الشكّ في تبدّل فرد من الطلب بفرد آخرمغاير له عرفاً، ولا يكون الوجوب والاستحباب وصفين للطلب في نظرالعرف كما كان الشدّة والضعف وصفين للسواد، فإذا علم زوال وجوب شيءواحتمل تبدّله إلى الاستحباب يكون من موارد محلّ النزاع، فإن قلنا بجريانالاستصحاب في الصورة الثانية من القسم الثالث بقي أصل الطلب وإلاّ فلا.
البحث حول تفصيل الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
استدلّ الشيخ رحمهالله لما اختاره من التفصيل بين الصورتين بأنّه في الصورةالاُولى يكون الكلّي المعلوم سابقاً مردّداً بين أن يكون وجوده على نحولا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاعذلك الفرد، فيحتمل كون الثابت في الآن اللاحق عين الموجود سابقاً، فيجريالاستصحاب فيه، بخلاف الصورة الثانية، فإنّ الكلّي المعلوم سابقاً قد ارتفعيقيناً، ووجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث من الأوّل، فلا يمكنجريان الاستصحاب فيه(1).
ويرد عليه أنّ مقارنة فرد لفرد آخر وعدمها لا دخل لهما في بقاء الكلّيوعدمه، إذ النظر في استصحاب الكلّي إلى نفس الكلّي مع قطع النظر عنخصوصيّات الفرد الذي هو في ضمنه، فلا وجه للتفصيل بين الصورتين، لأنّحدوث الكلّي في كليهما مقطوع وبقائه مشكوك.
فلابدّ إمّا من القول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّيمطلقاً وإمّا من القول بجريانه فيه كذلك حسب ما يقتضيه الدليل.
أدلّة المنكرين لجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي
- (1) فرائد الاُصول 3: 196.