ج6
من الاعتقادات القطعيّة، ألا ترى أنّ ظاهر قوله تعالى: «وَ جَآءَ رَبُّكَ»(1)تجسّمه تعالى، ولا نجعل هذه الآية ردعا عن حكم العقل باستحالة كونهتعالى جسما؟
وبالجملة: تساقط المتعارضين المتكافئين قاعدة عقليّة كما عرفت(2)،لا عقلائيّة فقط، فلا يصحّ كلام سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» في المقام.
الحقّ في الجواب عن الإشكال
والأقرب عندي هو الجواب الأوّل، وهو أنّ مقتضى التخيير المستفاد منالأخبار من قبيل الأصل المعوّل عليه عند الشكّ في الوظيفة.
ويمكن الجواب عن الإيراد المتقدّم بأنّه يمكن القول بعدم حجّيّةمثبتات الخبر الذي اختير من المتعارضين مثل سائر الاُصول العمليّة.هذا أوّلاً.
وثانيا: أنّ الأصل العملي هو نفس التخيير لا طرفاه، فإنّ طرفيه ـ وهمهذا الخبر بجميع مداليله المطابقيّة والالتزاميّة وغيرهما، وذاك الخبر كذلك خارجان عن الأصل، فلو كان لنفس التخيير لازم عقلي أو عادي ذو أثرشرعي لم يترتّب عليه، بخلاف الخبرين المتعارضين، فإنّهما بتمام مداليلهميكونان طرفي التخيير، فكلّ منهما اختاره المجتهد كان دلالته الالتزاميّة حجّةكدلالته المطابقيّة.
هل التخيير في المقام يعمّ المقلّد أم لا؟
(صفحه468)
التنبيه الثاني: بعد ما عرفت من أنّ التخيير إنّما هو في المسألة الاُصوليّةفاعلم أنّه لا إشكال في تخيير المجتهد.
فهل يثبت التخيير للمقلّد أيضاً ـ بأن يقول المجتهد: في هذه المسألة روايتانمتكافئتان، ويجوز لمن قلّدني الأخذ بأيّهما شاء، فيختار المقلّد أحدهما، سيّما إذكان من أهل العلم ـ أم لا؟
ويمكن طرح البحث في دائرة أوسع بحيث يشمل جميع الاُصول العمليّة وإنلم يكن له ثمرة عمليّة إلاّ في المقام.
لا إشكال في أنّه يجوز للمقلّد إجراء الاُصول العمليّة في الشبهاتالموضوعيّة، فإذا علم أنّ الاستصحاب مثلاً حجّة عند مقلَّده يجوز لهاستصحاب وضوئه، لأنّه متمكّن من تشخيص الموضوع في الشبهاتالموضوعيّة.
ولا إشكال أيضاً في أنّ تشخيص الموضوع في الشبهات الحكميّة منوظائف المجتهد، والمقلّد لا يتمكّن منه، فإنّ استصحاب وجوب صلاة الجمعةمثلاً يتوقّف على ثبوت وجوبه في زمن المعصوم عليهالسلام والشكّ فيه في زمن الغيبة،ولا يمكن إثباتهما إلاّ للمجتهد المتتبّع في روايات صلاة الجمعة، سيّما مع كثرتهواختلافها، وكذا إجراء أصالة الحلّيّة في شرب التتن مثلاً يتوقّف على الفحصواليأس عن الظفر بحكمه الواقعي، وهذا ممّا لا يتمكّن منه إلاّ المجتهد.
إنّما الإشكال في أنّه هل يجوز للمجتهد أن يقول: صلاة الجمعة كانت واجبةفي زمن الحضور ووجوبها مشكوك فيه في هذا الزمان والاستصحاب حجّةعندي، فيأخذ المقلّد هذه الاُمور منه ويجري الاستصحاب مستقيما، أو لابدّللمجتهد من أن يفتي بوجوب صلاة الجمعة قضيّةً للاستصحاب، ويعمل المقلّدعلى فتواه؟
ج6
وفي ما نحن فيه هل يجوز للمجتهد أن يقول: في هذه المسألة خبرانمتعارضان متكافئان، والمكلّف مخيّر في الأخذ بأيّهما شاء، أم لابدّ له من أنيأخذ أحدهما ويفتي على طبقه، فيعمل المقلّد على فتواه؟
نعم، لا ثمرة عمليّة في الاستصحاب ونحوه، كما هو ظاهر، بخلاف التخيير،فإنّ التخيير إن ثبت للمقلّدين أيضاً فربما اختلف عملهم، إذ يمكن أن يأخذبعضهم هذا الخبر والآخرون ذاك الخبر(1)، بخلاف ما إذا لم يثبت لهم التخيير،فإنّ جميعهم يعملون حينئذٍ بفتوى المجتهد، فلا يختلف عملهم.
إذا عرفت هذا فالحقّ أنّ التخيير ثابت للمقلّد أيضاً، كالمجتهد، لأنّاختصاص تشخيص الموضوع بالمجتهد لا يقتضي اختصاص الخطاب أيضاً به،فالخطاب في قوله عليهالسلام : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(2) يعمّ المجتهدوالمقلّد، ولا دليل على اختصاصه بالمجتهد.
والحاصل: أنّ للمجتهد طريقين: أحدهما: الأخذ بإحدى الروايتينوالإفتاء على طبقها، الثاني: الإفتاء على التخيير في الأخذ بإحداهما.
وهل يجوز له الإفتاء بالتخيير في المسألة الفرعيّة ـ بأن يقول مثلاً: «أيّهالمكلّف أنت مخيّر بين الإتيان بصلاة الجمعة وبين تركها» من دون أن يعلمهبوجود الخبرين المتعارضين المتكافئين في المسألة ـ أم لا؟
قيل: نعم، يجوز له ذلك.
والحقّ عندي خلافه، لأنّه يوهم تحقّق التخيير في المسألة الفرعيّة، مع أنّالتخيير إنّما هو في المسألة الاُصوليّة، لا في حكم اللّه تعالى، كما عرفت(3) فيالتنبيه الأوّل.
- (1) بل قد يختلف عمل شخص واحد في طول الزمان لو قلنا بكون التخيير استمراريّا. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 27: 122، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
(صفحه470)
في أنّ التخيير بدوي أو استمراري
التنبيه الثالث: هل التخيير بدوي أو استمراري أو فيه تفصيل بين ما إذقلنا باختصاص التخيير بالمجتهد، فيكون بدويّا، وبين ثبوته للمقلّد أيضاً،فيكون استمراريّا؟
وليعلم أنّ المحتاج إلى الإثبات هنا إنّما هو كونه استمراريّا، وأمّا ثبوتالتخيير بدوا فلا يحتاج إلى أزيد من أصل أدلّة التخيير كما هو واضح.
والذي يمكن الاستدلال به على الاستمرار اثنان: نفس أدلّة التخيير،واستصحابه.
مناقشة الشيخ رحمهالله في دلالة أحاديث التخيير على استمراره
واستشكل الشيخ الأعظم رحمهالله على الأوّل بعدم تحقّق الإطلاق في أدلّةالتخيير، لأنّها في مقام بيان أصل التخيير، لا كيفيّته.
وتوضيح كلامه: أنّ السؤال عن كيفيّة التخيير إنّما هو في طول السؤال عنأصله، فإنّ للمكلّف شكّين: أحدهما: الشكّ في وظيفته عند مجيء الخبرينالمتعادلين، وثانيهما: الشكّ في خصوصيّاتها بعد تعيين أصل الوظيفة من كونالتخيير في الأخذ بأحدهما بدويّا أو استمراريّا، ولا إشكال في أنّ السائل فيأدلّة التخيير كان شاكّا في أصل الوظيفة وأنّه لدى تعارض الخبرين المتعادلينما ذا يصنع؟ فإذا اُجيب بأنّه مخيّر في الأخذ بأحدهما ينشأ له شكّ آخر فيكيفيّة التخيير وأنّه دائمي أم لا؟ وهذا موضوع آخر وشكّ ثانٍ مسكوت عنهفي أدلّة التخيير سؤالاً وجوابا.
وبالجملة: تكون روايات التخيير في مقام بيان أصل الوظيفة، لا كيفيّتها(1).
ج6
هذا حاصل ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام.
نقد كلام الشيخ رحمهالله من قبل الإمام الخميني«مدّ ظلّه»
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ في روايات التخييرخبرين يستفاد منهما استمرار التخيير:
أحدهما: ما روي مرسلاً عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام قال: قلت:يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لمتعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت»(1) فإنّه عليهالسلام جعل موضوع التوسعة والتخييرعدم العلم بحقّيّة أحدهما، ومعلوم أنّ المكلّف بعد الأخذ بأحدهما أيضاً ليعلم الحقّ منهما، إذ لا يعقل أن يُعدم الحكم موضوع نفسه(2).
الثاني: ما روي مرسلاً أيضاً عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد اللّه عليهالسلام قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترىالقائم(3)، فتردّ إليه»(4).
- (1) وسائل الشيعة 27: 121، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40.
- (2) توضيحه: أنّ تكرار عدم العلم في كلام الإمام عليهالسلام بعد كونه مذكورا في كلام السائل دليل على أنّه تمامالموضوع للحكم بالتخيير، إذ لو لم يكن ذكره لهذه العناية لاكتفى بذكره في كلام السائل ولم يكرّرههو عليهالسلام ، فسؤال السائل وإن كان من جهة الشكّ في أصل الوظيفة، إلاّ أنّ الجواب بإطلاقه يشتمل علىالوظيفة وعلى كيفيّتها.
وهذا على ما ذهبنا إليه من كون التخيير المستفاد من أخبار العلاج من قبيل الأصل العملي، واضح، لأنّموضوع الاُصول العمليّة كلّها عدم العلم والتحيّر في الحكم الواقعي، ولا ريب في أنّ المكلّف بعد الأخذبإحدى الروايتين أيضاً لا يعلم الواقع.
وهكذا على ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» من أنّ التخيير في كلام الشارع تخطئة لبناء العقلاء علىتساقط المتعارضين وحكم بالتخيير عند عدم العلم، فإنّ المكلّف بعد الأخذ بأحدهما في الواقعة الاُولىغير عالم أيضاً بأنّ أيّهما حقّ، وهو موضوع التوسعة والتخيير في رواية الحسن بن الجهم.
فاستفادة الاستمرار واضحة على المذهبين، وإن كانت على مذهبنا أوضح. منه مدّ ظلّه.
- (3) المراد بـ «القائم» في هذه الرواية: القائم بأمر اللّه، فهو يعمّ كلّ إمام معصوم، ولا يختصّ بالمهديّ«عجّلاللّه تعالى فرجه». منه مدّ ظلّه.