(صفحه284)
فإنّه يقال: إن أردتم جريان الاستصحاب الشخصي ـ أعني استصحابالجنابة الشخصيّة ـ فلا نسلّم كونها ذات حالة سابقة متيقّنة، لأنّ جنابة أوّلالنهار مقطوعة الزوال، والتي بعده مشكوكة الحدوث، فأين اليقين السابق؟!
وإن أردتم جريان القسم الثاني من استصحاب الكلّي، فالمقام ليس منه،لأنّ مجرى هذا النوع من الاستصحاب أن يتحقّق الكلّي في ضمن فرد مردّدبين ما هو مقطوع البقاء لكونه طويل العمر، ومقطوع الارتفاع لكونه قصيرالعمر، والمقام ليس كذلك(1)، لعدم تصوّر تحقّق كلّي الجنابة في ضمن فرد مردّدبين طويل العمر وقصيره في المثال، فإنّ حالات المكلّف لا تزيد على ثلاث:اليقين بالجنابة أوّل النهار، واليقين بارتفاعها بالغسل في الزمان الثاني، والشكّفي حدوث جنابة جديدة بعده.
نعم، لو احتمل حدوث جنابة جديدة عند ارتفاع الاُولى لكان من القسمالثالث من استصحاب الكلّي، وعلى القول بجريان الاستصحاب في هذا القسممن الكلّي لا بأس بجريانه في كلّي الجنابة هاهنا أيضاً(2).
هذا حاصل ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» عنالإشكال.
ومنها(3): ما إذا علمنا بعدم عدالة زيد، ثمّ شككنا فيه بعد عام، واحتملنكوننا في وسط هذا العام عالمين بعدالته، فإنّ هذا شبهة مصداقيّة لدليلالاستصحاب، لعدم إحراز اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ، حيث احتملنعروض يقين في أثناء العام على ضدّ الحالة السابقة، ولو كان كذلك واقع
- (1) للعلم بفرد من الجنابة وارتفاعه، وهو جنابة أوّل النهار، والشكّ في حدوث فرد آخر منها، وأين هذا منالقسم الثاني من استصحاب الكلّي؟! منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام الإمام«مدّ ظلّه».
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 193.
- (3) أي من الموارد التي ادّعي عدم جريان الاستصحاب فيها، لكونها شبهة مصداقيّة لدليله. م ح ـ ى.
ج6
لكان رفع اليد عمّا علم قبل العام من قبيل نقض اليقين باليقين لا بالشكّ.
وفيه: أنّ الشكّ إذا تعلّق بعين ما تعلّق به اليقين حتّى من حيث الزمانيرفعه رأسا(1)، ولا يضرّ بالاستصحاب القطع به فضلاً عن احتماله، فلو كنتمحدثا أوّل النهار ثمّ أيقنت في الظهر بصيرورتك متطهّرا ثمّ شككت بعد العصرفي الطهارة في الظهر التي كانت متيقّنة يجري استصحاب الحدث، لاتّصالزمان المشكوك ـ أعني الظهر ـ بزمان المتيقّن ـ أعني أوّل النهار ـ واليقين الذيتبدّل بالشكّ كأن لم يكن، فلا أثر له أصلاً.
نعم، لو قلنا بحجّيّة قاعدة اليقين لكان اليقين المرفوع بالشكّ الساري منشللأثر، لكنّا لا نقول بحجّيّتها.
والحاصل: أنّ الشكّ إذا كان ساريا لا يضرّ القطع بتخلّل اليقين بالضدّ بينهوبين اليقين السابق في جريان الاستصحاب، فضلاً عن كونه محتملاً.
ولو كان احتمال التخلّل مضرّا لكان جريان الاستصحاب في أشهر مواردهممنوعا، لأنّ من كان متطهرّا مثلاً ثمّ شكّ في صيرورته محدثا يكون منششكّه احتمال خروج البول مثلاً، ولو بال لكان حين البول قاطعا بصيروتهمحدثا، فاحتمال خروج البول يستلزم احتمال اليقين بالمحدثيّة، وأيضاً من كانمحدثا ثمّ شكّ في بقائه كان منشأه احتمال تحقّق الوضوء منه، وهذا الاحتماليستلزم احتمال اليقين بالطهارة، فهو يحتمل التخلّل بين الشكّ واليقين باليقينبالطهارة.
وبالجملة: لا يكون المثال من قبيل الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب،بل أركان الاستصحاب فيه تامّة، ونحن نلتزم بجريانه.
كلام للمحقّق النائيني رحمهالله مربوط بالمقام
- (1) لاستحالة اجتماع اليقين والشكّ الساري. م ح ـ ى.
(صفحه286)
ومنها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله ردّا على ما ذهب إليه السيّد محمّد كاظمصاحب العروة في الإنائين المشتبهين:
توضيحه: أنّ صاحب العروة رحمهالله قال فيها ما حاصله: أنّه لو كان عندنإنائان علم نجاستهما تفصيلاً ثمّ علمنا بصيرورة أحدهما طاهرا لكنّه اشتبهبالنجس فله ثلاث صور:
الاُولى: أن يكون الطاهر معلوما بالتفصيل ابتداءً ثمّ صار مشتبها لأجلالظلمة ونحوها.
الثانية: أن يكون معلوما بالإجمال ذاتا، أي حصل لنا العلم بصيرورة أحدالنجسين ـ لا على التعيين ـ طاهرا، من غير سبق علم تفصيلي به أصلاً.
الثالثة: أن يحصل العلم بطهارة أحدهما معنونا بعنوان، كالعلم بطهارة إناءزيد مثلاً، إلاّ أنّه غير معلوم لنا.
فيجري الاستصحاب في كلّ من الطرفين في جميع هذه الصور، فيجبالاجتناب عن كليهما(1).
هذا توضيح ما أفاده السيّد رحمهالله في العروة.
واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّ الاستصحاب لا يجري في هذه الصورأصلاً.
أمّا في الصورة الثانية: فلأنّ جريانه في كليهما مستلزم للتناقضفي أدلّته، حيث إنّ صدر دليل الاستصحاب ـ أعني قوله: «لا تنقض اليقين
- (1) العروة الوثقى 1: 103، المسألة 2 من الفصل المعقود في آخر المطهّرات لبيان طرق ثبوت التطهير.
وجريان الاستصحاب هاهنا مبنيّ على أن يكون عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليلاستلزامه المخالفة القطعيّة العمليّة، فلا مانع من الجريان إذا لم يكن كذلك، كما في المقام، وأمّا إن كانلاستلزامه التناقض في أدلّتها، فلا مجال لاستصحاب النجاسة في هذه الصور الثلاث أصلاً، لشمولالتناقض جميع موارد العلم الإجمالي، سواء كان جريان الأصل مستلزما للمخالفة القطعيّة أم لا.منه مدّ ظلّه.
ج6
بالشكّ» ـ يقتضي نجاسة كلّ من الإنائين، وذيله ـ أعني قوله: «انقضهبيقين آخر» ـ يقتضي طهارة المعلوم بالإجمال، وهذا تناقض واضح،فاستصحاب نجاسة كلّ منهما وإن كان جاريا في نفسه، إلاّ أنّهميتعارضان ويتساقطان بسبب العلم الإجمالي، ولو لاه لكان جاريا فيهما،لتماميّة أركانه.
وأمّا في الصورة الاُولى: فلاختلال أركان الاستصحاب فيها، لكونها شبهةمصداقيّةً لدليله، توضيحه: أنّا إذا علمنا تفصيلاً بطهارة أحدهما، كالإناءالواقع في الجانب الشرقي مثلاً انتقض اليقين بنجاسته بقين آخر، فإذا اشتبهبالآخر بعد ذلك بسبب عروض الظلمة ونحوها يصدق في كلّ منهما أنّه كانمعلوم النجاسة والآن شكّ فيها، إلاّ أنّه لم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزماناليقين، لأنّه يحتمل في كلّ منهما أن يكون هو الذي صار طاهرا، فانفصل زمانالشكّ عن زمان اليقين بتخلّل اليقين على ضدّ اليقين السابق بينهما، ويحتمل أنيكون الذي بقي نجسا، فاتّصل زمانهما ولم يتخلّل بينهما شيء، فلم يحرزالاتّصال، بل يكون شبهة مصداقيّة، لاحتمال أن يكون رفع اليد عن النجاسةالمعلومة سابقا من قبيل نقض اليقين باليقين واحتمال أن يكون من قبيل نقضاليقين بالشكّ.
وكذلك الحال في الصورة الثالثة، لأنّ معلوم الطهارة وإن لم يتشخّص فيهتشخّصا تامّا، إلاّ أنّه مشخّص بعنوانه، فيحتمل في كلّ منهما أن يكون هو إناءزيد، فانفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين، ويحتمل أن يكون هو الإناءالآخر، فاتّصل زمانهما، فيكون هذا أيضاً شبهة مصداقيّة لدليلالاستصحاب(1).
- (1) فوائد الاُصول 4: 511 ـ 515.
(صفحه288)
هذا حاصل كلام المحقّق النائيني رحمهالله هاهنا.
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله
تتصوّر إلاّ فيما انطبق عليه الدليل على أحد الاحتمالين، والمقام ليس كذلك،لأنّ كلاًّ من الإنائين إذا أردنا استصحابه إن كان هو إناء زيد كان معلومالطهارة، وإن كان هو الآخر كان معلوم النجاسة، فليس لنا احتمال ينطبق عليهدليل الاستصحاب، وكذلك الحال في الصورة الاُولى.
لكن يحصل من هذين اليقينين التعليقيّين شكّ في بقاء نجاسة كلّ منهما،فيجري استصحابهما، لتماميّة أركانه.
على أنّ اليقين التفصيلي في الصورة الاُولى صار بعد عروض مثلالظلمة يقينا إجماليّا، فليس لنا حين الشكّ يقين تفصيلي أصلاً، فزمانالشكّ متّصل بزمان اليقين، وبعبارة اُخرى: إذا علمنا بنجاسة الإنائين أوّلالنهار ثمّ علمنا بعد ساعة بصيرورة أحدهما معيّنا طاهرا ثمّ اشتبها بعد ساعةاُخرى يكون كلّ منهما بعد الاشتباه مشكوك الطهارة والنجاسة، ولا يكونهذا الشكّ متعلّقا بما بعد الاشتباه فقط، بل يشمل ما قبله، أعني الزمان الذيحصل اليقين التفصيلي بطهارة أحدهما، فيكون الشكّ متّصلاً باليقينبالنجاسة، فأين الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب؟! فلا إشكال ـ مع قطعالنظر عن العلم الإجمالي ـ في الالتزام بجريان الاستصحاب في هذهالصورة، وإذا جرى فيها ففي الصورة الثالثة يجري بطريق أولى، لعدم علمتفصيلي فيها أصلاً.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الموارد التي ادّعي كونها من قبيل الشبهة