ج6
ومنها: ما استدلّ به المحقّق الخراساني رحمهالله ، وهو أنّ الطبيعي يتعدّد بتعدّدأفراده، والكلّي في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر، فالقضيّة المشكوكة فياستصحاب القسم الثالث من الكلّي غير المتيقّنة، مع أنّ الاتّحاد بينهما شرط فيجريان الاستصحاب(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ الكلّي الموجودفي ضمن فرد وإن كان مغايراً عقلاً للكلّي الموجود في ضمن فرد آخر كما حقّقفي محلّه، إلاّ أنّ جريان الاستصحاب لا يتوقّف على الوحدة العقليّة، بل الميزانوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً، ولا إشكال في اختلاف الكلّيّاتبالنسبة إلى أفرادها لدى العرف.
توضيحه: أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته، كزيدوعمرو بالنسبة إلى الإنسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب، كزيدوحمار بالنسبة إلى الحيوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أوالبعيد، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضي الذي هي تحته، كزيد وعمروبالنسبة إلى الأسود أو الأبيض، أو بالنسبة إلى العالم أو الجاهل.
ولا يخفى أنّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيّات مختلفة عرفاً، فإنّه لا يرى إنسانيّةزيد مغايرة لإنسانيّة عمرو مثلاً، وهكذا لا يرى حيوانيّة بقر مغايرة لحيوانيّةحمار مثلاً، فإذا علمنا بوجود الإنسان في الدار في ضمن زيد ثمّ علمنا بخروجزيد منها واحتملنا وجود عمرو فيها مقارناً لوجوده أو لخروجه لا إشكال فيجريان استصحاب الإنسان؛ لأنّ الإنسان في ضمن زيد لا يغاير عرفالإنسان في ضمن عمرو، وكذا إذا علمنا بوجود الحيوان في الدار في ضمن بقرثمّ علمنا بخروج هذا البقر منها واحتملنا وجود حمار فيها مقارناً لوجوده أو
(صفحه166)
لخروجه لا إشكال في جريان استصحاب الحيوان؛ لأنّ الحيوان في ضمن البقرلا يغاير عرفاً الحيوان في ضمن الحمار، بخلاف ما إذا علمنا بوجود الحيوان فيالدار في ضمن زيد ثمّ علمنا بخروج زيد منها واحتملنا وجود حمار فيهمقارناً لوجوده أو لخروجه، فإنّ الإنسان وإن كان حيواناً عند المنطقيّين، ولذعرّفوه بأنّه «حيوان ناطق» إلاّ أنّ العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان،فلا يجري استصحاب الحيوان في هذا المثال.
وبالجملة: إذا كانت القضيّة المتيقّنة متّحدة مع المشكوكة عند العرف يجريالاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي، وإذا لم تكونا كذلك فلا يجري، ولعبرة بالوحدة العقليّة وعدمها(1).
هذا حاصل بيان سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام، وهو حقّمتين.
وإن شئت قلت بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي مطلقاً منغير التصريح بالتفصيل بين ما إذا اتّحدت القضيّتان عرفاً وبين غيره؛ لأنّالاتّحاد بينهما من شرائط جريان الاستصحاب في جميع الموارد حتّى فياستصحاب الفرد المعيّن، فعدم جريانه في بعض موارد القسم الثالث من الكلّيـ وهو ما إذا لم تتّحد القضيّتان ـ إنّما هو لاختلال الشرط المعتبر في جميعالموارد، فلا يسمّى هذا تفصيلاً بين موارد القسم الثالث من استصحاب الكلّي.
القول فيما أفاده المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المسألة
ومنها: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الكلّي لا وجود له إلاّ في ضمنالفرد، فهو حين وجوده متخصّص بإحدى الخصوصيّات الفرديّة، فالعلم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 134.
ج6
بوجود فرد معيّن يوجب العلم بحدوث الكلّي بنحو الانحصار ـ أي يوجبالعلم بوجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة هذا الفرد ـ وأمّا وجود الكلّيالمتخصّص بخصوصيّة فرد آخر فلم يكن معلوماً لنا، فما هو المعلوم لنا قدارتفع يقيناً، وما هو محتمل للبقاء لم يكن معلوماً لنا، فلا يكون الشكّ متعلّقببقاء ما تعلّق به اليقين، فلا يجري فيه الاستصحاب(1)، إنتهى كلامه.
وفيه: أنّ الكلّي وإن لم يوجد إلاّ في ضمن فرده، إلاّ أنّ تغاير الأفراد ليستلزم تغايره، فالإنسانيّة التي في ضمن زيد مثلاً لا تغاير الإنسانيّة التي فيضمن عمرو، إذ لكلّ منهما جهات شخصيّة وجهة مشتركة مع الآخر، وهيالإنسانيّة، واستصحاب الكلّي عبارة عن الحكم ببقاء الجهة المشتركة مع قطعالنظر عن الجهات الشخصيّة، فإذا علمنا بوجود زيد في الدار ثمّ علمنبخروجه عنها مع احتمال دخول عمرو فيها مقارناً لدخول زيد أو لخروجهيصدق أن يُقال: كان الإنسان في الدار والآن نشكّ في بقائه فيها، فيستصحب.
إشكال آخر على استصحاب القسم الثالث من الكلّي
ومنها: أنّ جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي يستلزم الحكمبعدم جواز مسّ كتابة القرآن لمن احتمل الجنابة في حال النوم وتوضّأ بعدالانتباه، لأنّه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقّه كان اللازم ترتيبالأحكام المشتركة بين الحدث الناشئ من النوم والجنابة عليه ما دام لميغتسل، كعدم جواز مسّ المصحف، مع أنّه لا يمكن الالتزام به، لأنّ كفايةالوضوء حينئذٍ من الواضحات، وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحابفي هذا القسم من الكلّي.
- (1) مصباح الاُصول 3: 114.
(صفحه168)
وأنت خبير بأنّ هذا الإشكال يتوجّه إلى كلّ من قال بجريان الاستصحابفي القسم الثالث، سواء قال به مطلقاً أو فصّل وقال بجريانه في صورة احتمالحدوث فرد آخر مقارن لحدوث الفرد المعلوم، وبعدم جريانه في صورة احتمالحدوثه مقارناً لارتفاع الفرد الأوّل، كما هو مذهب الشيخ الأنصاري رحمهالله ، وذلكلكون مورد الإشكال هو الصورة الاُولى كما هو واضح.
جواب المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» عن هذا الإشكال
وقد أجاب عنه بعض الأعلام بأنّ في هذا المثال خصوصيّة تقتضي عدموجوب الغسل وجواز كلّ مشروط بالطهارة، وهي أنّ جريان الاستصحابفي الكلّي محكوم بالأصل الموضوعي.
توضيح ذلك: أنّ قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ(1) فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْوَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْجُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ(2)»(3) يدلّ على وجوب الوضوء على كلّ من كان نائماً ولم يكنجنباً، فقد اُخذ في موضوع وجوب الوضوء أمر وجودي، وهو النوم، وأمرٌعدمي جزءاً أو قيداً، وهو عدم الجنابة، وهذا الأمر العدمي وإن لم يذكر فيالآية الشريفة صريحاً، إلاّ أنّه يستفاد من مقابلة الوضوء للغسل والنومللجنابة، فإنّ التفصيل بين النوم والجنابة، والوضوء والغسل قاطع للشركة،بمعنى أنّه لا يشارك الغسل للوضوء، ولا الوضوء للغسل.
كما يستفاد نظير ذلك من مقابلة الوضوء للتيمّم في الآية الشريفة، فإنّ قولهتعالى في ذيل الآية: «فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا»(4) يدلّ على أنّ
- (1) إذا قمتم إلى الصلاة: أي إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، وبه فسّرها المفسّرون أيضاً. منه مدّ ظلّه.
- (2) فاطّهّروا: أي فاغتسلوا. منه مدّ ظلّه.
- (4) أصل الآية هكذا: «وَإِن كُنتُم مَّرْضَىآ أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْجَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآلـءِطِ أَوْ لَـمَسْتُمُ النِّسَآءَفَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا».
ج6
وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء وإن لم يذكر فيه صريحاً، إلاّ أنّهمن مقابلة الوضوء للتيمّم يستفاد ذلك، لأنّ التفصيل قاطع للشركة.
وبالجملة: يستفاد من الآية الشريفة كون الموضوع لوجوب الوضوء مركّبمن النوم وعدم الجنابة، فيكون المثال المتقدّم من صغريات الموضوعاتالمركّبة التي قد اُحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها الآخر بالأصل، فإنّالنائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء،أحدهما بالوجدان، وهو النوم، والآخر بالأصل، وهو عدم الجنابة، فيجبعليه الوضوء فقط، لما عرفت من أنّه لا يجتمع على المكلّف وجوب الوضوءوالغسل معاً، لأنّ سبب وجوب الوضوء لا يمكن أن يجتمع مع سبب وجوبالغسل، فإنّ من أجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة، فلا يعقل أن يجتمعمع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل، فإنّه يستلزم اجتماع النقيضين.
فعلى هذا لا يجري استصحاب الحدث الكلّي، لأنّ الشكّ في بقاء الحدثمسبّب عن احتمال حدوث الجنابة في النوم، وبعد جريان استصحاب عدمحدوثها لا مجال لهذا الاحتمال، فثبت أنّ استصحاب الحدث في هذا المثالمحكوم بالأصل الموضوعي ولا يكون هذا مانعاً عن جريان الاستصحاب فيسائر موارد القسم الثالث من الكلّي(1).
هذا توضيح ما أفاده بعض الأعلام في المقام.
البحث حول كلام المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المسألة
وقد استشكل في هذا الجواب بأنّ ما قاله ـ من أنّ التفصيل بين النوم
- (1) مصباح الاُصول 3: 115.