(صفحه200)
في المقام إلاّ عن أنّ نفس التعليقيّة هل توجب عدم جريان الحرمة التعليقيّة أملا؟ وأمّا أنّ العنب والزبيب هل هما شيئان أو شيء واحد والعنبيّة والزبيبيّةحالتان له فللبحث عنه محلّ آخر.
إذا عرفت محلّ النزاع فلابدّ من تقديم أمرين حتّى يتّضح ما هو الحقّ فيالمسألة:
الوجوه المحتملة في التعليقات الشرعيّة
الأوّل: أنّ التعليقات الواقعة في لسان الشارع ـ كقوله: «إذا كان الماء قدر كرّلم ينجّسه شيء»(1) وقوله: «إذا غلى العصير العنبي يحرم»(2) ـ تحتمل ثبوتلاُمور: منها: أن يكون التعليق للحكم كما قال به المشهور في الواجبالمشروط من أنّ القيد راجع إلى الهيئة لا إلى المادّة، فإذا قلنا: «إن جائك زيدفأكرمه» يكون المجيء قيدا للوجوب لا للإكرام، ومنها: أن يكون تعليقللموضوع كما قال به الشيخ رحمهالله في الواجب المشروط من أنّ القيد راجع إلىالمادّة لا إلى الهيئة، فعلى الأوّل يكون المجعول في مثال العصير حرمته علىتقدير الغليان، وفي مثال كرّيّة الماء الاعتصام على تقدير الكرّيّة، وعلى الثانييكون المجعول فيهما هو الحرمة المتعلّقة بالعصير المغليّ والاعتصام المتعلّق بالماءالبالغ حدّ الكرّ، ومنها: أن يجعل سببيّة المعلّق عليه للمعلّق، فيكون مفادالقضيّتين أنّ الغليان سبب للحرمة والكرّيّة سبب للاعتصام، ومنها: أن يجعلالملازمة بين الكرّيّة والاعتصام وبين الحرمة والغليان من دون أن يكون بينهمتقدّم وتأخّر، بخلاف السببيّة، فإنّ السبب مقدّم على المسبّب رتبةً.
- (1) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و 2.
- (2) ورد مضمونه في وسائل الشيعة 25: 287، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 3 من أبواب الأشربةالمحرّمة، الحديث 4.
ج6
لا يقال: لا يتصوّر جعل السببيّة والملازمة.
فإنّه يقال: ما لا يمكن جعله هو السببيّة والملازمة التكوينيّة، وأمّا السببيّةوالملازمة الاعتباريّة التشريعيّة فلا إشكال في إمكان جعلهما الشرعي، فهذالقائل(1) خلط بين التكوين والتشريع كما تقدّم في مبحث الأحكام الوضعيّة.
والحاصل: أنّ التعليق يحتمل ثبوتا أربعة اُمور: جعل الحكم معلّقا علىشيء، وجعله متعلّقا بموضوع معلّق عليه، وجعل السببيّة للمعلّق عليه، وجعلالملازمة بينه وبين المعلّق.
نعم، تسمية الأخيرين تعليقا في غير محلّه، لأنّ الشارع إذا قال: «الغليانسبب للحرمة» أو «ملازم لها» كان قضيّة تنجيزيّة لا تعليقيّة كما هو واضح،فالفرضان الأخيران خارجان عن محلّ النزاع، لعدم التعليق فيهما.
اختصاص النزاع بالتعليقات الشرعيّة
الثاني: أنّ التعليق قد يكون في كلام الشارع ويعبّر عنه بالتعليق الشرعي،كما إذا قال: «إذا غلى العنب يحرم» و«إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» وقدلا يكون في كلامه، لكنّ العقل بعد ملاحظته يحكم بالتعليق، ويعبّر عنهبالتعليق العقلي، كما إذا ورد أنّ «العنب المغليّ حرام» وأنّ «الماء البالغ حدّالكرّيّة لا ينجّسه شيء» و أنّ «الماء البالغ مساحته ثلاثة أشبار ونصف طولوعرضا وعمقا كرّ» ثمّ العقل بعد ملاحظة هذا الكلام يحكم بأنّ العنب إذا غلىيحرم، وأنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء، ويحكم أيضاً على الماء البالغثلاثة أشبار في أبعاده الثلاثة بأنّه إذا زيد عليه نصف شبر في كلّ من أبعادهيصير كرّا، لكنّه ليس من التعليق الشرعي، بل هو تعليق يدركه العقل من
- (1) هو المحقّق النائيني كما تقدّم في ص132.
(صفحه202)
القضيّة المنجّزة.
والتعليق العقلي خارج عن محلّ البحث، لأنّه لا يكون حكما شرعيّا ولموضوعا ذا أثر شرعي، أمّا عدم كونه حكما شرعيّا فلأنّ الحكم الشرعي هوحرمة العنب المغليّ مثلاً لا حرمته على تقدير الغليان، وأمّا عدم كونه ذا أثرشرعي فلأنّ الأثر الوارد في كلام الشارع هو الحرمة وموضوعها العنب المغليّ،فالتعليق العقلي خارج عن محلّ النزاع، لعدم كونه حكما شرعيّا ولا ذا أثرشرعي كي يستصحب.
فالتفصيل بين التلعيق الشرعي والعقلي والقول بجريان الاستصحاب فيالأوّل دون الثاني ليس تفصيلاً في المسألة واقعا.
بيان الحقّ في المسألة
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّ الملاك في أخبار الاستصحاب هوفعليّة اليقين والشكّ، لا فعليّة المتيقّن، فعلى هذا لا مانع من جريانالاستصحاب التعليقي، لأنّ الشارع إذا قال: «العنب إذا غلى يحرم» ثمّ شككنفي حرمة الزبيب على تقدير الغليان فلنا يقين فعلي متعلّق بحرمة العنب علىتقدير الغليان وشكّ فعلي متعلّق بها كذلك بعد أن صار زبيبا.
ودعوى أنّ الحكم المعلّق على شيء لا وجود له قبل وجود المعلّق عليه، فمدام الغليان لم يتحقّق لا حرمة أصلاً، فلا يكون لنا قضيّة متيقّنة، فاسدةٌ، لأنّالحكم الفعلي يتوقّف على تحقّق المعلّق عليه، لا التعليقي، فإنّه يوجد بنفسصدور الحكم من قبل الشارع من غير تأخير.
إن قلت: الاستصحاب في المقام مثبت، لأنّ الأثر المترتّب على استصحابالحرمة على تقدير الغليان لا يكون إلاّ الحرمة التنجيزيّة بعد تحقّق الغليان،
ج6
وهي من اللوازم العقليّة، وبعبارة اُخرى: يستصحب الحكم التعليقي ويترتّبعليه الحكم الفعلي الذي هو من لوازمه العقليّة.
قلت: إنّ التعبّد بقضيّة تعليقيّة، كقوله: «العنب إذا غلى يحرم» أثره فعليّةالحكم وتنجيزيّته لدى حصول المعلّق عليه من غير شبهة المثبتيّة، لأنّ التعليقإذا كان شرعيّا يقتضي التعبّد شرعا بفعليّة الحكم لدى تحقّق المعلّق عليه،فتحقّق الغليان وجدانا بمنزلة تحقّق موضوع الحكم الشرعي وجدانا.هذا أوّلاً.
وثانيا: أنّ عدم حجّيّة الأصل المثبت إنّما يكون فيما إذا كان المستصحب منالموضوعات، وأمّا إذا كان حكما شرعيّا يترتّب عليه آثاره العقليّة والعاديّةكالآثار الشرعيّة، ألا ترى أنّا لو استصحبنا وجوب صلاة الجمعة مثلاً يترتّبعليه وجوب الإطاعة مع كونه حكما عقليّا، فإنّ الأحكام العقليّة تترتّب علىالأحكام الشرعيّة، سواء ثبت باليقين أو الأمارة أو الاستصحاب.
نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وأنكر المحقّق النائيني رحمهالله جريان الاستصحاب التعليقي، وله في هذا المقامكلام طويل نذكره ملخّصا.
قال رحمهالله : المستصحب إذا كان حكما شرعيّا فإمّا أن يكون حكما جزئيّا وإمّأن يكون حكما كلّيّا، ونعني بالحكم الجزئي هو الحكم الثابت على موضوعهعند تحقّق الموضوع خارجا الموجب لفعليّة الحكم، ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكمالجزئي لا يتصوّر إلاّ إذا عرض لموضوعه الخارجي ما يشكّ في بقاء الحكممعه ولا إشكال في استصحابه.
وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّي فهو يتصوّر على أحد وجوه ثلاث:
(صفحه204)
الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ كما إذا شكّ في نسخ الحكمالكلّي المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، فيستصحب بقاء الحكم الكلّيالمترتّب على الموضوع، ولا إشكال أيضاً في استصحاب هذا القسم، ونظيراستصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في النسخ استصحاب الملكيّة المنشأة فيالعقود العهديّة التعليقيّة، كعقد الجعالة والسبق والرماية، فإنّ ملكيّة العوضالمنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المنشأة على موضوعاتها المقدّرةوجودها، فلو شكّ في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لتنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بفسخ أحدهميجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبلتحقّق السبق وإصابة الرمي.
الوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم الكلّي على موضوعه المقدّر وجوده عندفرض تغيّر بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماءالمتغيّر الذي زال عنه التغيّر من قبل نفسه، ولا إشكال في جريان استصحاببقاء الحكم في هذا الوجه أيضاً.
الوجه الثالث: الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب منجزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجودالجزء الآخر، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب علىتقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه،فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ويترتّب عليهنجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصف العنبيّة والزبيبيّة من حالاتالموضوع لا أركانه، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليهبالاستصحاب التعليقي.