وأمّا الحكومة: فلا أصل لها هاهنا، فإنّها عبارة عن ورود دليل بلحاظدليل آخر لتفسيره وشرحه والنظارة عليه، مثل قوله: «إذا شككت بينالثلاث والأربع فابن على الأربع»(1) وقوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»(2) فإنّ هذالدليل الثاني ورد بلحاظ الدليل الأوّل، وغرضه نفي أحكام الشكّ التي دلّعليها الدليل الأوّل عن شكّ كثير الشكّ بلسان نفي موضوعه، ولو لا الدليلالأوّل لا مجال لورود الدليل الثاني أصلاً.
والمقام ليس كذلك، فإنّه لا نظر لدليل الأمارة إلى مدلول دليلالاستصحاب ولا بالعكس، فإنّ كلاًّ منهما بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل،ويطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة.
وظاهر القائل بالحكومة كون دليلها حاكما على دليله حتّى في صورةالموافقة، مع أنّه لا يمكن الالتزام به، لأنّ الحكومة إمّا أن تكون بنحو تضييقالدليل الحاكم لدائرة الدليل المحكوم أو بنحو توسعته لها، والمقام ليس كذلك،فإنّ مفاد الخبر الدالّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً عين مفاد استصحابه،
فكيف يكون قوله: «صدّق العادل» حاكما على قوله: «لا تنقض اليقينبالشكّ»؟!
وأمّا التوفيق العرفي فإن اُريد منه ما ذكرناه ـ أعني ورود دليلها على دليله فلا بحث، إذ الاختلاف إنّما يكون في اللفظ والتعبير فقط، وإن اُريد بهالتخصيص، ففيه: أنّه كما عرفت لا يبقى المورد لدليل الاستصحاب مع دليلالأمارة، لا أنّ كلاًّ منهما يشمله حتّى يكون تقديم الثاني تخصيصا للأوّل(1).
هذا حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
ملاك تقدّم أحد الدليلين على الآخر
ولابدّ قبل بيان ما هو الحقّ في المسألة من ذكر مقدّمة إجمالاً في بيان ميمكن أن يكون ملاكا لتقدّم أحد الدليلين على الآخر، وسيجيء تفصيلالبحث فيه في مبحث التعادل والترجيح إنشاء اللّه.
فنقول: إنّ كلّ دليلين لا يخلو من إحدى حالات ثلاث:
الاُولى: أن لا يتعرّض أحدهما بمدلوله لما يتعرّضه الآخر، أي لا ربط بينهمأصلاً، مثل قوله: «يجب إكرام العلماء» و«يحرم إكرام الجهّال» فلا إشكال فيوجوب العمل بكليهما.
الثانية: أن يكون كلّ منهما متعرّضا لما يتعرّضه الآخر، ولكن لا تقدّم بينهمبوجه من الوجوه، مثل أن يقول: «يجب إكرام العلماء» و«يحرم إكرام العلماء»فإنّ كلاًّ منهما يتعرّض لإكرام العلماء، لكنّ أحدهما يوجبه والآخر يحرّمه، ولوجه لتقديم أحدهما على الآخر، فيقع التعارض بينهما.
الثالثة: أن يكون بينهما ربط ويكون أحدهما مقدّما على الآخر.
(صفحه344)
وملاك التقدّم قد يكون الأقوائيّة في الظهور، كما إذا كان أحدهما ظاهروالآخر أظهر أو نصّا، فإذا قال: «رأيت أسدا» ثمّ قال بكلام منفصل(1): «الذيرأيته كان ماهرا في الرمي» يقدّم الثاني على الأوّل، لأنّ ظهور القرينة أقوىمن ظهور ذيها.
وأمّا تقدّم الخاصّ على العامّ الذي يعبّر عنه بالتخصيص وتقدّم المقيّد علىالمطلق الذي يعبّر عنه بالتقييد، فهل هو من جهة الأقوائيّة في الظهور كما هومقتضى التحقيق، أو من جهة الحكومة كما قال به الشيخ الأعظم، فللبحث عنهمحلّ آخر، وهو مبحث التعادل والترجيح، وسيأتي إنشاء اللّه تعالى.
وبالجملة: قد يكون ملاك التقدّم هو الأقوائيّة في الظهور ومصداقه البارزتقدّم ظهور قرينة المجاز على ظهور ذيها في المعنى الحقيقي.
وقد يكون الملاك هو الحكومة.
توضيح ذلك: أنّ الدليلين قد يكون بينهما ربط من دون أن يكون أحدهمأقوى ظهورا من الآخر، إلاّ أنّ أحدهما متعرّض لجهة من جهات الآخر ممّا ليتعرّضها نفسه بمدلوله المطابقي، كالتعرّض لموضوعه أو متعلّقه أو جهة اُخرى،فإذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «الفسّاق ليسوا من العلماء» أو «سلام العالمإكرام له» أو «الموسيقي ليس بعلم» فإنّ كلاًّ من هذه الأدلّة الثلاثة الأخيرةمقدّم على قوله: «أكرم العلماء» مع عدم كونه أظهر منه، وذلك لأنّ قوله:«الفسّاق ليسوا من العلماء» ورد بلحاظ ما للعلماء من الحكم وهو وجوبإكرامهم، وإلاّ فلا وجه لوروده لو لم يكن بهذا اللحاظ، فهو مربوط بقوله:«أكرم العلماء» في أنّه متعرّض لجهة من جهات موضوعه من دون أن يكون
- (1) التعبير بـ «كلام منفصل» لأجل عدم انعقاد الظهور في المعنى الحقيقي إذا اتّصل اللفظ بقرينة المجاز.منه مدّ ظلّه.