ج6
انتزاعها ومحلّ اعتبارها، فالأثر يكون حقيقةً لمنشأ الانتزاع ومحلّ الاعتبار،فاستصحاب الفرد لترتيبه لا يكون بمثبت، بخلاف مثل السواد والبياض، فإنّلهما وجودا حقيقيّا خارجيّا، فلا يجري استصحاب معنونهما ليترتّب عليهآثارهما(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد نظريّة الشيخ رحمهالله في المقام
ونسب إلى الشيخ الأعظم رحمهالله أنّ ظاهر كلامه في الرسائل عدمحجّيّة الاستصحاب في جميع هذه الصور، حيث قال: لا فرق فيما ذكرنبين كون العنوان الذي يكون واسطة متّحد الوجود مع المستصحبأو مغايره(2).
وفيه: أنّه يستلزم إنكار حجّيّة الاستصحاب في الموضوعات رأسا، لأنّهلا يكون لنا حكم شرعي إلاّ أنّ متعلّقه عنوان كلّي.
نقد كلام صاحب الكفاية في المقام
وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله فللبحث عنه مقامان:
المقام الأوّل: فيما ذكره أوّلاً من أنّ العنوان إذا كان منتزعا من مرتبة ذاتالمستصحب ـ كالنوع والجنس والفصل ـ يجري الاستصحاب ويترتّب عليهأثر العنوان، ولا يكون بمثبت.
ويرد عليه أنّ الأصل المثبت لا يكون إلاّ ترتيب الأثر على المستصحب
- (2) فرائد الاُصول 3: 235.
(صفحه256)
بواسطة عقليّة، والمقام من هذا القبيل، حيث إنّك تجري الاستصحاب في الفردوترتّب عليه أثر العنوان الكلّي المنطبق عليه.
ودعوى أنّ الأثر يكون للفرد حقيقةً، لعدم وجود الكلّي في الخارج إلبوجوده غير مسموعة، لما عرفت سابقا(1) من أنّ استصحاب الفرد لا يغنيعن استصحاب الكلّي وبالعكس، فإذا تعلّق حكم على الإنسان فاستصحاببقاء زيد لا يثبت آثار الإنسان، لأنّ حيثيّة الإنسانيّة في عالم الاعتبار وتقديرموضوعيّة الموضوع للأحكام غير حيثيّة الفرديّة، وإن كان الفرد متّحدا معالطبيعي خارجا، ولأجل لحاظ الحيثيّة في عالم تقدير موضوعيّة الموضوع قلنبعدم اتّحاد موضوع الحرمة والوجوب فيما إذا صلّى في الدار المغصوبة، فإنّمتعلّق الوجوب هو عنوان الصلاة، ومتعلّق الحرمة هو عنوان الغصب، وليسري حكم أحدهما إلى الآخر وإن اتّحدا خارجا.
فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله دفعا لإشكال المثبتيّة غير تامّ.
كلام المحقّق الخوئي في دفع الإشكال ونقده
وسلك بعض الأعلام طريقا آخر لدفعه، وهو أنّ قوله: «الخمر حرام» مثلاً،قضيّة حقيقيّة، لا طبيعيّة، فمعناه «كلّ مايع وجد وكان خمرا فهو حرام» فمتعلّقالحكم هو الوجودات الخارجيّة وأفراد الخمر، فإذا استصحبنا بقاء خمريّةمايع يترتّب عليه الحرمة، لأنّها أثره، لا أثر كلّي الخمر.
نعم، لا دخل للخصوصيّات الفرديّة ـ مثل كونه في هذا الزمان أو في ذلكالظرف أو مصنوع هذا الشخص ـ في تعلّق الحكم به(2).
- (2) مصباح الاُصول 3: 171.
ج6
وفيه: أنّه خلاف ظاهر الأدلّة الشرعيّة، فإنّ ظاهرها أنّ الطبايع هيموضوعات الأحكام لا المصاديق الخارجيّة، إذ اللام في مثل قوله: «الخمرحرام» للجنس لا للاستغراق، والمراد من مدخولها ـ أعني «خمر» ـ أيضطبيعة الخمر وماهيّتها، لا أفرادها الخارجيّة.
الحقّ في دفع الإشكال
وقال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» لدفع إشكال المثبتيّة ما حاصله:أنّ هاهنا اُمورا ثلاثة: أحدها: عنوان الكلّي بما أنّه كلّي، كالإنسان، والثاني:عنوان الفرد الذي يتّحد معه خارجا ومختلف اعتبارا وحيثيّةً، كزيد، والثالث:عنوان الكلّي المتحقّق في الخارج المتشخّص في العين، كالإنسانيّة المتحقّقة فيالخارج في ضمن أحد أفراده، ويجري الاستصحاب في الأوّل والثالث لترتيبآثار العنوان الكلّي دون الثاني، أمّا في الأوّل فلا كلام فيه، وأمّا في الثالث فلينبغي الإشكال فيه، إذ الأحكام في لسان الأدلّة وإن تعلّقت بالعناوين الكلّيّةبما أنّها كلّيّة، إلاّ أنّ العرف يحكم بسرايتها إلى العناوين المتحقّقة في الخارجالمتشخّصة في العين، فإذا قال الشارع: «الخمر حرام» كان الموضوع هو الخمربعنوانها الكلّي، إلاّ أنّ الحكم يسري عند العرف إلى مصداقها الخارجي، لأنّالعناوين الطبيعيّة موجودة بوجود المصاديق عندهم، فإذا شكّ في بقاء خمريّةمايع يستصحب بقائها ويترتّب عليها أثرها، وهو الحرمة والنجاسة.
وبالجملة: فرق بين استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي، كاستصحاب بقاءزيد عند الشكّ في بقائه لترتيب آثار الإنسان عليه، واستصحاب بقاء المايعالخارجي عند الشكّ في بقائه لترتيب آثار الخمر عليه، وبين استصحاب
(صفحه258)
العنوان المنطبق على الخارج، كاستصحاب إنسانيّة زيد مثلاً وخمريّة هذا المايعلترتيب آثار الإنسان والخمر عليهما، فالثاني يجري، لأنّه استصحاب نفسالعنوان المتحقّق في الخارج، فهو كاستصحاب نفس الكلّي لترتيب آثاره، وأمّالأوّل فلا يجري عندنا(1)، لكونه مثبتا، لأنّ بقاء زيد يلازم عند العقل بقاءالإنسان، وبقاء المايع الخارجي يلازم عنده بقاء الخمر، فترتيب الآثار ليكون بلا واسطة، بل بواسطة الملازمة العقليّة، فيكون مثبتا(2).
هذا حاصل ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام، وهودقيق متين.
المقام الثاني: فيما ذكره صاحب الكفاية من التفصيل بين الخارج المحمولوالمحمول بالضميمة، فقال بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.
وفيه ـ مع قطع النظر عن صحّة تفسير الخارج المحمول بالأعراضالاعتباريّة، والمحمول بالضميمة بالأعراض الحقيقيّة، وعدمها(3) ـ إشكال مهمّأورده عليه بعض الأعلام، وهو أنّه إن أراد من هذا التفصيل أنّ استصحابالفرد يجري في الأوّل لترتيب آثار الكلّي عليه دون الثاني، فهو باطل؛ لأنّالاستصحاب كما يجري في ملكيّة زيد لمال لترتيب آثار الملكيّة من جوازتصرّفه فيه وعدم جواز تصرّف الغير فيه بدون إذنه، فكذلك إذا شكّ في بقاءفرد من أفراد المحمول بالضميمة، كعدالة زيد مثلاً، فباستصحاب هذا الفردتترتّب آثار مطلق العدالة، كجواز الاقتداء به ونحوه، فلا وجه للفرق بينالخارج المحمول والمحمول بالضميمة في ذلك.
وإن كان مراده أنّ الاستصحاب يجري في منشأ الانتزاع ويترتّب عليه أثر
- (1) وإن كان قضيّة كلام المحقّق الخراساني وبعض الأعلام جريانه. منه مدّ ظلّه.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 187.
- (3) راجع ـ للاطّلاع على فساد هذا التفسير ـ الرسائل، مبحث الاستصحاب: 188.
ج6
الأمر الانتزاعي الذي يكون لازما له على فرض بقائه فيما إذا كان هذا الأمرالانتزاعي اعتباريّا، لا فيما إذا كان له حقيقة وما بإزاء خارجي، فهو مثبت فيكليهما، بل هو من أوضح مصاديق الأصل المثبت، فإذا علمنا بوجود جسم فيمكان، ثمّ علمنا بوجود جسم آخر في أسفل من المكان الأوّل، مع الشكّ فيبقاء الجسم الأوّل في مكانه، لم يكن ترتيب آثار فوقيّته على الجسم الثانيباستصحاب وجوده في مكانه الأوّل، فإنّه من أوضح أنحاء الأصل المثبت،وكذلك لا يمكن إثبات زوجيّة امرأة خاصّة لزيد مع الشكّ في حياتها، وإنعلم أنّها على تقدير حياتها تزوّجت به يقينا(1).
القول في استصحاب الجزء والشرط وعدم المانع
المطلب الثاني: قال المحقّق الخراساني رحمهالله : لا تفاوت في الأثر المستصحب أوالمترتّب عليه بين أن يكون مجعولاً شرعا بنفسه، كالتكليف وبعض أنحاءالوضع، مثل الملكيّة والزوجيّة والحرّيّة والرقّيّة ونحوها، أو بمنشأ انتزاعه،كبعض أنحائه(2)، كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، فإنّه أيضاً ممّا تناله يد الجعلشرعا، ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعهورفعه، ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتّب أو المستصحب مجعولاً مستقلكما لا يخفى(3).
أقول: هذا كلام متين، لكنّه رحمهالله فرّع عليه جواب إشكال في المقام، مع أنّه ليكون متفرّعا عليه.
حاصل الإشكال: أنّه لا يمكن جريان الاستصحاب في الشرط أو الجزء
- (1) مصباح الاُصول 3: 171.
- (2) أي بعض أنحاء الوضع. م ح ـ ى.