ج6
فيه وإن كان جارياً في نفسه، لتماميّة موضوعه من اليقين والشكّ، إلاّ أنّه محكومبأصل سببي، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفردالطويل، والأصل عدمه، ففي المثال يكون الشكّ في بقاء الحدث مسبّباً عنالشكّ في حدوث الجنابة، فتجري أصالة عدم حدوث الجنابة، وبانضمام هذالأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع الحدث، فإنّ الحدث الأصغر مرتفعبالوجدان(1)، والحدث الأكبر منفيّ بالأصل.
لا يقال: أصالة عدم حدوث الجنابة معارضة بأصالة عدم حدوث البول،فيتساقط الأصلان في ناحية السبب وتصل النوبة إلى الأصل المسبّبي، وهواستصحاب بقاء الكلّي.
فإنّه يقال: لا تجري أصالة عدم حدوث البول، لعدم ترتّب الأثر عليه، لأنّهتوضّأ فرضاً بعد حدوث الرطوبة المشتبهة بين البول والمنيّ.
جواب صاحب الكفاية عن الإشكال
وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمهالله أوّلاً: بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليسمسبّباً عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل، بل مسبّب عن الشكّ في كونالحادث طويلاً أو قصيراً، وبعبارة اُخرى: الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عنالشكّ في خصوصيّة الفرد الحادث، وليس له حالة سابقة حتّى يكون موردللأصل، فتجري فيه أصالة عدم كونه طويلاً، فما هو مسبوق بالعدم ـ وهوحدوث الفرد الطويل ـ ليس الشكّ في بقاء الكلّي مسبّباً عنه، وما يكون الشكّفيه مسبّباً عنه ـ وهو كون الحادث طويلاً ـ ليس مسبوقاً بالعدم حتّى يكونمورداً للأصل.
- (1) لأنّه توضّأ فرضاً بعد رؤية الرطوبة المشتبهة. م ح ـ ى.
(صفحه150)
وثانياً: بأنّ بقاء الكلّي عين بقاء الفرد الطويل، فإنّ الكلّي عين الفرد، لا أنّهمن لوازمه ومسبّباته، فلا تكون هناك سببيّة ومسبّبيّة(1).
هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام.
نقد الفقرة الأخيرة من كلام صاحب الكفاية رحمهالله
وفيه: أنّ العينيّة لا تنفع للقائل بجريان الاستصحاب في الكلّي، إذ لو كانجريان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل على تقدير السببيّة قادحاً فهو أولىبذلك على تقدير العينيّة.
إشكال تغاير القضيّتين في القسم الثاني من استصحاب الكلّي ودفعه
وأورد سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» على جريان الاستصحاب فيهذا القسم إشكالاً آخر، وهو أنّ المتيقّن السابق مردّد بين الحيوانين(2)، والكلّيمتكثّر الوجود في الخارج، فالبقّ غير الفيل وجوداً وحيثيّةً، حتّى أنّ حيوانيّةالبقّ أيضاً غير حيوانيّة الفيل على ما هو التحقيق في باب الكلّي الطبيعي، ومهو مشكوك البقاء ليس هذا المتيقّن المردّد بينهما، فلا تتّحد القضيّتان.
ثمّ أجاب«مدّ ظلّه» عنه بأنّ القضيّتين وإن كانتا متغايرتين بالدقّة العقليّة،إلاّأنّهما متّحدتان عرفاً، والملاك فهم العرف، لأنّه مخاطب في الأخبار التي منجملتها قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ».
ثمّ قال: لكنّ الإنصاف أنّه لو اُغمض النظر عن وحدتهما عرفاً فلا يمكن
- (2) هذا في المثال المعروف بين الاُصوليّين للقسم الثاني من استصحاب الكلّي، وهو أنّا علمنا بوجودحيوان في الدار مردّد بين الفيل والبقّ ثمّ شككنا في بقاء الحيوان، لأنّا نعلم ببقائه على تقدير كونه فيلوبموته على تقدير كونه بقّاً. م ح ـ ى.
ج6
التخلّص عن الإشكال، سواء اُريد إجراء استصحاب الكلّي المعرّى واقعاً عنالوجود والخصوصيّة أو استصحاب الكلّي المتشخّص بإحدى الخصوصيّتينأو الكلّي الموجود في الخارج مع قطع النظر عن الخصوصيّة، وذلك لاختلالركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير.
أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ حصول اليقين بوجود الكلّي المعرّى عنالوجود والخصوصيّة غير معقول، فلا يحصل الشكّ أيضاً، فيختلّ ركناه.
وأمّا على التقدير الثاني: فلأنّ ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما،لأنّ الكلّي المتشخّص بكلّ خصوصيّة يغاير المتشخّص بالخصوصيّة الاُخرى،فتكون القضيّة المتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما، وقضيّة اعتبار وحدتهمع المشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال، وفي المقام لا يكون الشكّفي بقاء المعلوم بالإجمال، بل يعلم في الزمان الثاني إجمالاً إمّا ببقاء الطويل أوارتفاع القصير، وإنّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم،طويل العمر كان أو قصيره، فاختلّ الركن الثاني من الاستصحاب، وهو الشكّفي بقاء المتيقّن.
وأمّا على التقدير الثالث: فلعدم وجود الكلّي في الخارج مع قطع النظر عنالخصوصيّة إلاّ على رأي الرجل الهمداني من أنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلىأفراده من قبيل نسبة الأب الواحد إلى أولاده، فالقدر المشترك بين زيدوعمرو موجود في الخارج ويسمّى الإنسان، وهما فردان من الإنسان، لا أنّهمإنسانان، وأمّا على ما هو المشهور بين الفلاسفة والمنطقيّين ـ وهو المسلكالمنصور ـ من أنّ نسبة الكلّي الطبيعي إلى أفراده من قبيل نسبة الآباء المتعدّدةإلى أبنائهم والكلّي يكون متكثّر الوجود بتكثّر أفراده وكلّ واحد من زيدوعمرو إنسان فتكون الطبيعة في الخارج طبيعتين، فكما لا علم تفصيلي
(صفحه152)
بإحدى الخصوصيّتين لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين.
نعم، نعلم إجمالاً بتحقّق الكلّي في ضمن أحد الفردين، إلاّ أنّا لا نشكّ فيالزمان الثاني في بقاء ذلك المعلوم بالإجمال، لأنّا نعلم ببقائه على تقدير حدوثهفي ضمن الفرد الطويل وبارتفاعه على تقدير حدوثه في ضمن الفرد القصير كمقلنا في التقدير الثاني، ففي هذا التقدير أيضاً اختلّ الركن الثاني منالاستصحاب، وهو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق.
فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة القضيّتين عرفاً، وهيالمعتبرة في الاستصحاب(1).
ما الفرق بين المقام وبين استصحاب البقاء في الشبهة المفهوميّة؟
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً آخر، وهو ما يرد على استصحاب بقاء النهار فيالشبهة المفهوميّة في أنّ النهار ينتهي باستتار قرص الشمس أو يبقى إلى زوالالحمرة المشرقيّة؛ لأنّ الاستصحاب غير جارٍ فيه، لعدم الشكّ في الخارج، لأنّاستتار القرص معلوم وعدم زوال الحمرة معلوم أيضاً، فالأمر دائر بينالمعلومين، وإنّما الشكّ في انطباق مفهوم النهار على إحدى القطعتين.
وكذا الحال فيما نحن فيه، لدوران الأمر بين المقطوعين، لأنّ الحيوانالخارجي إمّا باقٍ قطعاً أو مرتفع كذلك، فلا شكّ في الخارج، وإنّما الشكّ فيانطباق عنوان الفيل أو البقّ عليه.
بيان الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في الجواب عن الإشكال
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ قياس ما نحن فيه على
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 127.
ج6
الشبهة المفهوميّة مع الفارق، لأنّ الشكّ في الشبهة المفهوميّة ليس إلاّ في المعنىاللغوي أو العرفي، أي يشكّ في أنّ لفظ «النهار» موضوع إلى هذا الحدّ أو ذلكالحدّ، وهو ليس مجرى الاستصحاب؛ لأنّ المعنى اللغوي أو العرفي لا يثبتبالاستصحاب.
بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الشكّ إنّما هو في بقاء الحيوان الخارجي، ومنشالشكّ إنّما هو الشكّ في طول عمره وقصره واقعاً، ومثل ذلك لا إشكال فيجريان الاستصحاب فيه، لأنّه مربوط بالواقع، لا بالعرف واللغة، فلا ربطللمقام بالشبهة المفهوميّة(1).
الشبهة العبائيّة
بقي هنا إشكال آخر منسوب إلى الفقيه الجليل السيّد إسماعيل الصدر رحمهالله ،وهو المعروف بالشبهة العبائيّة، وهي أنّه لو علمنا بإصابة النجاسة أحد طرفيالعباء من الأسفل أو الأعلى ثمّ طهّرنا الطرف الأسفل فطهارته يورث الشكّ فيبقاء النجاسة في العباء؛ لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرفالأعلى، فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة ويلزمه القول بنجاسة الملاقيللطرفين، مع أنّه لم يلتزم به أحد، لأنّ الطرف الأسفل مقطوع الطهارة والطرفالأعلى مشكوك النجاسة، للشكّ في إصابة النجاسة له، فلا يجري الاستصحابفي القسم الثاني من الكلّي، لعدم ترتّب الأثر عليه.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» حول الشبهة العبائيّة
وأجاب عنه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» بأنّ جريان
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 129.