في استصحاب الاُمور الاعتقاديّة
استصحاب الاُمور الاعتقاديّة
التنبيه العاشر: أنّهم اختلفوا في جريان الاستصحاب في الاعتقاديّات.
ومنشأ الشبهة في جريانه أمران:
أحدهما: أنّهم قالوا: إنّ الاستصحاب أصل عملي، فتخيّل بعضهم عدمشموله للاعتقاديّات التي هي من الاُمور القلبيّة لا العمليّة.
الثاني: احتجاج الجاثليق على الإمام على بن موسى الرضا عليهالسلام باستصحاب النبوّة لإثبات بقاء شريعته.
والحقّ جريان الاستصحاب فيها إذا كان أركانه موجودة، ولا يضرّتعبيرهم بأنّه أصل عملي، لأنّ معناه أنّه وظيفة للشاكّ تعبّدا في قبال الأماراتالحاكية عن الواقعيّات، فيعمّ الأعمال الجوانحيّة، كالجوارحيّة.
على أنّ التعبير بكونه أصلاً عمليّا لم يرد في آية أو رواية، فالملاك فيجريان الاستصحاب إنّما هو صدق قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ».
وأركانه هي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء مع كونه مرتبطا بالشارع،يعني قابلاً للتعبّد الشرعي، سواء كان حكما أو موضوعا ذا حكم أو مربوطبه بوجه ثالث، ولا يخفى أنّ المراد بالشكّ في البقاء ما يقابل اليقين، لا الشكّالمتساوي طرفاه فقط، فإذا تحقّق هذه الاُمور يجري الاستصحاب، سواء كانمن الأعمال الجوارحيّة أو من الاُمور الاعتقاديّة.
(صفحه302)
كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المسألة
والمحقّق صاحب الكفاية رحمهالله فصّل في المقام تفصيلاً متينا، وهو أنّ الاُمورالاعتقاديّة على قسمين:
الأوّل: ما يكون المطلوب به هو الانقياد والتسليم والاعتقاد، بمعنى عقدالقلب عليه من الأعمال القلبيّة الاختياريّة(1)، كالالتزام القلبي بوجوب الصلاةوحرمة الخمر، فيجري استصحاب الحكم، وكذا استصحاب الموضوع، مثلإذا تيقّن أنّ الالتزام بوجوب صلاة الجمعة كان واجبا وشكّ في بقائه يجرياستصحاب وجوب الالتزام بذلك(2).
الثاني: ما يكون المطلوب به هو القطع به ومعرفته، فيجري الاستصحابفي الحكم، لا الموضوع، فلو كان متيقّنا بوجوب تحصيل القطع بشيءـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان، وشكّ في بقاء وجوبه يستصحب، وأمّا لو شكّفي بقاء حياة إمام زمان مثلاً فلا تستصحب لأجل ترتيب لزوم معرفة إمامزمانه، لأنّ الواجب هو تحصيل القطع بحياة الإمام المعصوم أو بموته، ولا يكفيالاستصحاب(3).
هذا حاصل كلام صاحب الكفاية رحمهالله ، وهو تامّ متين.
استصحاب النبوّة
- (1) وبعبارة اُخرى: يكون المطلوب في هذا القسم مجرّد التباني القلبي، لا القطع واليقين. منه مدّ ظلّهتوضيحا لكلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
- (2) إنّ الاُستاذ«مدّ ظلّه» لم يذكر مثالاً لاستصحاب الموضوع، ويمكن التمثيل له بما إذا تيقّن أنّ صلاةالجمعة كانت واجبة وشكّ في بقاء وجوبها، فيستصحب ويترتّب عليه وجوب الالتزام به لو قلنبوجوب الموافقة الالتزاميّة كالعمليّة في الأحكام. وهذا المثال وإن كان قابلاً للمناقشة ـ لأنّ استصحابوجوب صلاة الجمعة يكون جاريا، سواء ترتّب عليه وجوب الالتزام به أم لا ـ إلاّ أنّه يوجب تقريبالمطلب إلى الذهن. م ح ـ ى.
ج6
وأمّا النبوّة فلو قلنا بكونها ناشئةً من كمال النفس قهرا بلا جعل ـ كما ذهبإليه المحقّق الخراساني رحمهالله (1) ـ فلا وجه لاستصحابها، لأنّها على هذا من الصفاتالخارجيّة التكوينيّة، فلا تكون حكما شرعيّا ولا يترتّب عليها أيضاً أثرشرعي مهمّ ولا يرتبط بالشارع من وجه آخر، فلا مجال لاستصحابها.
وإن قلنا بكونها مجعولةً من قبل اللّه تعالى بعد كونه أهلاً لها، كالإمامة(2)ـ وهو الأظهر، خلافا للمحقّق الخراساني رحمهالله ـ فهي وإن كانت موردللاستصحاب بنفسها لأجل كونها من المجعولات الشرعيّة، فيكون وضعهورفعها بيد الشارع، فلا تحتاج في استصحابها إلى أثر شرعي مترتّب عليه، إلأنّه لا يجري لجهة اُخرى.
نقد استصحاب الكتابي نبوّة النبيّ السابق
وهي أنّ الكتابي إن أراد استصحاب نبوّة موسى أو عيسى لتشخيصوظيفة نفسه يرد عليه أنّه إن لم يكن شاكّا فيها فلا مجال للاستصحاب، وإنكان شاكّا فيها فلا محالة يكون منشأ شكّه احتمال صدق نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، فلابدّ له منالفحص، لعدم جريان الاُصول العمليّة في الأحكام قبله، وإن كان جاريا فيالموضوعات، فأهمّيّة النبوّة لا تكون بأقلّ من أهمّيّة الأحكام الفرعيّة، فإذكان الفحص لازما قبل جريان الاُصول فيها ففي النبوّة بطريق أولى، ونحننقطع بأنّه لو بحث عن دين الإسلام لقطع بحقّانيّته وارتفاع النبوّة السابقة، ول
- (2) يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِذِ ابْتَلَىآ إِبْرَ هِيمَ رَبُّهُو بِكَلِمَـتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَوَ مِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّــلِمِينَ»، البقرة: 124. أنّ الإمامة تكون أمرا مجعولاً من قبل اللّهتعالى، إذ لو كانت توجد عقيب الأهليّة تكوينا لكان إبراهيم عليهالسلام بعد الابتلاء إماما قهرا ولا أثر لجعل اللّهتعالى الإمامة له، فمن فيه شرائط الإمامة وهو أهلٌ لها لا يكون قبل الجعل إماما بالفعل، نعم، له شأنيّةالإمامة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه304)
يبقى مجال لاستصحابها. هذا أوّلاً.
وثانيا: لا يكون الاستصحاب حجّةً ذاتا، فلابدّ له من دليل على اعتباره،مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» وليس في الأديان السابقة دليل عليه.
سلّمنا وجود الدليل عليه فيها، لكنّ النبوّة من الاُمور التي لابدّ من القطعبها، فلا يكفي استصحابها، على أنّ الشكّ في بقاء دينه يستلزم الشكّ في اعتبارهذا الدليل أيضاً.
سلّمنا كفاية الظنّ لإثبات النبوّة، لكنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ بالبقاءأوّلاً، ولا دليل على اعتبار الظنّ الحاصل منه ثانيا، والأصل العقلائي حرمةالعمل بالمظنّة إلاّ ما ثبت حجّيّته كما حقّق في محلّه.
فلا يمكن للكتابي استصحاب نبوّة النبيّ السابق لتشخيص وظيفته.
وإن أراد استصحابها لإلزام المسلمين عليها(1)، ففيه أوّلاً: أنّ المسلم ليكون شاكّا في بقاء نبوّة النبيّ السابق، بل يكون قاطعا بارتفاعها، وإلاّ فلميكن مسلما، فلا مجال لتحميل الاستصحاب عليه.
وثانيا: أنّ التمسّك بقوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لإثبات بقاء النبوّةالسابقة أمر يلزم من وجوده عدمه، حيث إنّ الإقرار ببقائها يستلزم عدمتحقّق الإسلام، ولازمه عدم حجّيّة «لا تنقض اليقين بالشكّ» رأسا، وما يلزممن وجوده عدمه فهو باطل.
عدم ثبوت نبوّة النبيّ السابق إلاّ بإخبار القرآن
وثالثا: جعل النبوّة لموسى وعيسى عليهماالسلام لا يثبت عندنا إلاّ من طريق إخبار
- (1) كأنّه يقول للمسلمين: لابدّ لكم بمقتضى ما ورد في شريعتكم من «لا تنقض اليقين بالشكّ» منالاعتراف بنبوّة النبيّ السابق. منه مدّ ظلّه.