ج6
الاستصحاب فيه لا يجري إلاّ في خصوص ما مضى من الصلاة قبل العلمبالنجاسة، وأمّا حال العلم فلا يكون مجرى استصحاب الطهارة كما هو واضح،ولا يكون أيضاً من مصاديق أخبار الرعاف، لأنّها كما قلنا لا تشمل إلاّ نجاسةحادثة في أثناء الصلاة، وأمّا ما كان موجوداً من أوّل الصلاة فهو مانع لها، وإنحصل العلم به في الأثناء.
إشكال ثالث وجواب
ثمّ حصلت هاهنا شبهة اُخرى، وهي أنّا لا نعلم وجه إجراء الاستصحابوالحكم بصحّة الصلاة في الصورة الأخيرة، أعني قوله عليهالسلام : «وإن لم تشكّ ثمّرأيته رطباً إلخ» لأنّ الفرض في هذه الصورة أن يرى المصلّي نجاسة في الأثناءواحتمل كونها معه من أوّل الصلاة وحدوثها في الأثناء، فحال العلم بها ليكون مجرى استصحاب الطهارة ولا مصداقاً لأخبار الرعاف، أمّا الأوّل:فظاهر، وأمّا الثاني: فلعدم العلم بحدوثها في الأثناء حتّى يكون مصداقاً لتلكالأخبار، فكيف حكم الإمام عليهالسلام بصحّة الصلاة، وعلّلها باستصحاب الطهارة؟
ولكن يمكن الجواب عنها بأنّه لا إشكال في جريان استصحاب الطهارةبالنسبة إلى ما قبل العلم بالنجاسة، وأثره الشرعي صحّة ما وقع من الصلاةقبل العلم بها، وأمّا مسألة مانعيّة هذه النجاسة فيمكن حلّها بأنّا نشكّ فيكونها مانعة أم لا، ومنشأ هذا الشكّ أنّا لا نعلم أنّها هل حدثت في الأثناء،فلا تكون مانعة، أو كانت من أوّل الأمر، فتكون مانعة، فتجري البراءةالشرعيّة والعقليّة، كما تجري البراءة ـ على التحقيق ـ بقسميها فيما إذا شككنا فيمانعيّة ثوب للصلاة، كما إذا شككنا في كونه من الحيوان المذكّى أم لا؟ فإنّجريان البراءة في اللباس المشكوك كونه من المذكّى أو غيره وإن كان مختلف
(صفحه76)
فيه، إلاّ أنّ المحقّقين قالوا بجريانها عقليّها ونقليّها.
فحكم الإمام عليهالسلام في هذه الصورة بصحّة الصلاة معلول لأمرين: أحدهما:استصحاب الطهارة بالنسبة إلى ما قبل العلم بالنجاسة، الثاني: أصالة البراءةبالنسبة إلى حال العلم بها، والإمام عليهالسلام لم يذكر في الرواية إلاّ الأوّل منهما وإنكان قوله عليهالسلام : «لأنّك لا تدري إلخ» ظاهراً في كون الاستصحاب تمام العلّة، إلأنّه لا يمكن الأخذ بهذا الظهور، لما عرفت من الاحتياج إلى أصالة البراءةلرفع المانعيّة.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه حول الرواية أنّ جميع فقراتها مطابقة للقواعد،والدالّ منها على حجّيّة الاستصحاب فقرتان بالتفصيل المتقدّم.
ج6
صحيحة زرارة الثالثة
ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة، وهي ما رواه الكليني رحمهالله عن عليّ بن إبراهيم،عن أبيه، ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً، عن حمّاد بنعيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أحدهما عليهماالسلام قال: قلت له: من لم يدر فيأربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال: «يركع ركعتين وأربع سجداتوهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أوفي أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها اُخرى ولا شيء عليه، ولا ينقضاليقين بالشكّ ولا يُدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّهينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين فيبني عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حالمن الحالات»(1).
هل الرواية وردت تقيّةً أو لبيان الحكم الواقعي؟
مذهب العامّة في الشكّ بين الأقلّ والأكثر هو البناء على الأقلّ والإتيان بمشكّ فيه متّصلاً، ومذهب الشيعة هو البناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك فيهمنفصلاً، فهل هذه الرواية ظاهرة في الأوّل حتّى تكون تقيّةً أو في الثاني حتّى
- (1) الكافي 3: 351، كتاب الصلاة، باب السهو في الثلاث والأربع، الحديث 3.
(صفحه78)
تكون لبيان الحكم الواقعي؟
قيل: إنّها ظاهرة في بيان الحكم الواقعي، لأنّ قوله: «بفاتحةالكتاب» ظاهر في تعيّن الفاتحة، وهذا لا يلائم الاتّصال، إذ حكمالركعتين الأخيرتين في الصلاة الرباعيّة هو التخيير بينهموبين التسبيحات.
لكن ظاهر قوله عليهالسلام : «يركع ركعتين» عقيب سؤال زرارة، وأيضظاهر قوله: «قام فأضاف إليها اُخرى» هو الاتّصال وصدورها علىوجه التقيّة.
والحكم بتعيّن الفاتحة ليست على خلاف التقيّة، لما حكي عن الشافعيوأحمد بن حنبل وبعض آخر من فقهاء العامّة القول بتعيّن الفاتحة في الركعاتكلّها، فالظاهر منها هو إتيان الركعتين في الفرع الأوّل وإضافة الركعة في الفرعالثاني متّصلةً.
والذي يبعّد هذا الاحتمال هو الفرع الثاني المذكور في الرواية، لأنّه لا يرتبطبسؤال زرارة، فكيف ذكره الإمام عليهالسلام من قبل نفسه وبيّن حكمه تقيّةً مع أنّالضرورات تتقدّر بقدرها؟!
فهذا يرشدنا إلى أنّ الإمام عليهالسلام مع كونه في مقام التقيّة، أراد بيان المذهبالحقّ أيضاً، فالرواية لم تصدر للتقيّة المحضة، بل إنّه عليهالسلام أفتى بما هو ظاهر فيخلاف المذهب الحقّ تقيّةً وأراد بيانه في حجاب التقيّة.
الوجوه المحتملة في الحديث
ثمّ إنّ في الرواية احتمالات:
ج6
نظريّة المحدّث الكاشاني رحمهالله فيه
منها: أنّ قوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعني به لا يبطل الركعاتالمحرزة بسبب الشكّ في الزائدة بأن يستأنف الصلاة، بل يعتدّ بالمتيقّنة، و«ليُدخل الشكّ في اليقين» أي لا يعتدّ بالمشكوك فيها بأن يضمّها إلى المحرزةويتمّ بها الصلاة من غير تدارك، «ولا يخلط أحدهما بالآخر» عطف تفسيرللنهي عن الإدخال، «ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» أي الشكّ في الركعة الزائدة،بأن لا يعتدّ بها، بل يأتي بالزيادة على الإيقان، «ويتمّ على اليقين» أي يبنيعلى المتيقّن فيها(1).
هذا ما أفاده المحدّث الفيض الكاشاني رحمهالله حول الحديث.
وعليه لم يتعرّض قوله عليهالسلام : «ولا يُدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهمبالآخر» لذكر فصل الركعة ووصلها في الفرعين، ولم يتعرّض أيضاً قوله: «لينقض اليقين بالشكّ» للاستصحاب كما هو واضح، فعلى هذا الاحتمال لا تكونالرواية دالّة على الاستصحاب.
ومنها: أنّ قوله عليهالسلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يكون بالمعنى الذيذكره المحدّث الكاشاني رحمهالله ، ولكن قوله: «لا يدخل الشكّ في اليقين» وقوله:«لا يخلط أحدهما بالآخر» يعني بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافةللاحتياط، بأن يُراد بهما عدم إدخال المشكوك فيها في المتيقّنة وعدم خلطأحدهما بالآخر، فيكون المراد بالشكّ واليقين: المشكوك فيها والمتيقّنة، أيأضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين والركعة إلى الثلاث المحرزة، لكنلا يُدخل المشكوك فيها في المتيقّنة ولا يخلط إحداهما بالاُخرى، بأن يأتي
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 104، نقلاً عن المحدّث الفيض الكاشاني رحمهالله .