ج6
على أنّ سائر الأدلّة التي ادّعي دلالتها على حجّيّة الأمارات أيضاً لا تدلّعلى تنزيلها منزلة اليقين، ألا ترى أنّ مفهوم آية النبأ الذي ادّعي دلالته علىحجّيّة خبر الواحد عبارة عن «إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن»؟ وعلىفرض تسليمه أين دلالته على لزوم إلغاء احتمال الخلاف وتنزيل خبر العادلمنزلة اليقين؟
الحقّ في حلّ الإشكال
ويمكن الجواب عن الإشكال بأنّ اليقين ـ كما قلنا سابقاً ـ اُخذ موضوعللاستصحاب بلحاظ تعلّقه بالمتيقّن، لا بلحاظ كونه من الصفات القائمة بنفسالمتيقِّن، فإنّ اليقين بذلك اللحاظ له إبرام مصحّح لإسناد النقض إليه، لباللحاظ الثاني، وقد مرَّ توضيح ذلك سابقاً(1).
ولابدّ من ضمّ نكتة اُخرى إليه حتّى يتبيّن جواب الإشكال، وهي أنّ ملاكإبرام اليقين واستحكامه بالنسبة إلى المتيقّن لا يكون كشفه عن الواقع دائماً، إذكثيراً ما يكون جهلاً مركّباً، بل الملاك هو حجّيّته وعدم حجّيّة الشكّ، فكأنّهقيل: «لا تنقض اليقين بالشكّ لأنّ اليقين حجّة والشكّ ليس بحجّة» فالحكمـ عني حرمة النقض ـ يدور مدار العلّة، والمعنى «لا تنقض الحجّة باللاحجّة».
فلا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد الأمارات المعتبرة، لكونهحجّة، إلاّ أنّ حجّيّتها شرعيّة وحجّيّة اليقين الوجداني عقليّة.
هذا ما أجاب به سيّدنا الاُستاذ الإمام«مدّ ظلّه» عن الإشكال مع توضيحمنّا(2).
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 124.
(صفحه142)
ثمّ ذكر له مؤيّدات نذكر اثنين منها:
1 ـ قوله«مدّ ظلّه»: ويؤيّد ذلك، بل يدلّ عليه قوله في صحيحة زرارة الثانية:«لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقضاليقين بالشكّ أبداً» الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، ولابدّ أنتحمل الطهارة على الواقعيّة منها، لعدم جريان الاستصحاب في الطهارةالظاهريّة، ومعلوم أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعيّة ممّا لا يمكن عادةً(1)، بلالعلم إنّما يحصل بالأمارات، كأصالة الصحّة وإخبار ذي اليد وأمثالهما، فيرجعمفاده إلى أنّه لا يرفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.
2 ـ قوله: بل يمكن أن يؤيّده بصحيحته الاُولى أيضاً، فإنّ اليقين الوجدانيبالوضوء الصحيح أيضاً ممّا لا يمكن عادةً، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحّةبعده ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجبالشكّ فيه، فاليقين بالوضوء أيضاً لا يكون يقيناً وجدانيّاً غالباً(2).
إنتهى كلامه«مدّ ظلّه العالي».
فالاستصحاب جارٍ في مورد الأمارات، كما يجري في مورد اليقينالوجداني.
- (1) والممكن هو العلم الوجداني بالنجاسة، إلاّ أنّه غير مورد الرواية، فلو كان اليقين فيها خصوص العلمالوجداني للزم خروج المورد، وهو العلم بطهارة الثوب. منه مدّ ظلّه.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 124.
ج6
(صفحه144)
في استصحاب الكلّي
استصحاب الكلّي والفرد
التنبيه الثالث: المستصحب قد يكون فرداً وقد يكون كلّيّاً.
والفرد إمّا أن يكون فرداً معيّناً ـ كوجود زيد ـ فلا إشكال في جريانالاستصحاب فيه وترتيب آثاره عليه، وإمّا أن يكون فرداً مردّداً ـ كما إذعلمنا بوجود زيد أو عمرو في الدار ثمّ شككنا في بقائه فيها ـ فلا إشكال أيضفي جريان الاستصحاب فيه وترتيب الآثار المشتركة بين وجود زيد وعمروفي الدار عليه، لا الآثار المختصّة بكلّ واحدٍ منهما، لأنّ كلاًّ منهما وجوده فيالدار مشكوك الحدوث، فلا يجري الاستصحاب فيه كي يترتّب آثاره المختصّةبه عليه.
وقيل: للفرد قسم ثالث: وهو الفرد المنتشر المعبّر عنه بالكلّي المعيّن فيالخارج، ومثّل له بـ «صاع من الصبرة».
أقول: لا يمكن أن يكون شيء فرداً منتشراً، فإنّ الفرديّة تستلزم التشخّص،والانتشار يستلزم عدم التشخّص.
وأمّا مثال «صاع من الصبرة» فهو مثال للكلّي، لا للفرد، لأنّ الكلّي إذا قيّدبقيود متعدّدة لا يخرج عن الكلّيّة، لأنّ التقييد لا يوجب إلاّ ضيق دائرة المقيّدمن دون أن يخرجه عن الكلّيّة، بل لبعض الكلّيّات مصداق واحد، كمفهومواجب الوجود، فالفرق بين «صاع من الحنطة» و «صاع من هذه الصبرة» إنّم
ج6
يكون في سعة الدائرة وضيقها مع كون كلّ منهما كلّيّاً، فلا يمكن أن يكون شيءجزئيّاً ومع ذلك كان منتشراً.
لا يقال: الفرد المردّد أيضاً لا يكون مشخّصاً، فكيف قلت بأنّ الفرديّة فيهتستلزم جزئيّته وتشخّصه؟!
فإنّه يقال: الفرد المردّد وإن كان عندنا مردّداً إلاّ أنّه مشخّص واقعاً، بخلاف«صاع من الصبرة» فإنّه لا تشخّص فيه أصلاً.