ج6
استصحاب الكلّي، لأنّه من قبيل الشكّ في تبدّل فرد من الطلب بفرد آخرمغاير له عرفاً، ولا يكون الوجوب والاستحباب وصفين للطلب في نظرالعرف كما كان الشدّة والضعف وصفين للسواد، فإذا علم زوال وجوب شيءواحتمل تبدّله إلى الاستحباب يكون من موارد محلّ النزاع، فإن قلنا بجريانالاستصحاب في الصورة الثانية من القسم الثالث بقي أصل الطلب وإلاّ فلا.
البحث حول تفصيل الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
استدلّ الشيخ رحمهالله لما اختاره من التفصيل بين الصورتين بأنّه في الصورةالاُولى يكون الكلّي المعلوم سابقاً مردّداً بين أن يكون وجوده على نحولا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاعذلك الفرد، فيحتمل كون الثابت في الآن اللاحق عين الموجود سابقاً، فيجريالاستصحاب فيه، بخلاف الصورة الثانية، فإنّ الكلّي المعلوم سابقاً قد ارتفعيقيناً، ووجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث من الأوّل، فلا يمكنجريان الاستصحاب فيه(1).
ويرد عليه أنّ مقارنة فرد لفرد آخر وعدمها لا دخل لهما في بقاء الكلّيوعدمه، إذ النظر في استصحاب الكلّي إلى نفس الكلّي مع قطع النظر عنخصوصيّات الفرد الذي هو في ضمنه، فلا وجه للتفصيل بين الصورتين، لأنّحدوث الكلّي في كليهما مقطوع وبقائه مشكوك.
فلابدّ إمّا من القول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّيمطلقاً وإمّا من القول بجريانه فيه كذلك حسب ما يقتضيه الدليل.
أدلّة المنكرين لجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي
- (1) فرائد الاُصول 3: 196.
(صفحه164)
وقد استدلّ على العدم بوجوه:
منها: أنّ العلم بوجود الفرد في الخارج إنّما يلازم العلم بوجود حصّة منالكلّي في ضمن الفرد الخاصّ، لا العلم بوجود الكلّي، والحصّة الموجودة فيضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الاُخرى في ضمن فرد آخر، ولذا قيل: نسبةالكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء المتعدّدة إلى الأبناء(1).
واستشكل عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بقوله: لا يخفى أنّ هذناشٍ من عدم تعقّل الكلّي الطبيعي وكيفيّة وجوده وعدم الوصول إلى مغزى(2)مراد القوم من أنّ نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء، ضرورة أنّالكلّي الطبيعي لدى المحقّقين موجود بتمام ذاته مع كلّ فرد من الأفراد، فكلّ فردفي الخارج بتمام هويّته عين الكلّي، لا أنّه حصّة منه، ولا يعقل الحصص للكلّي،فزيد إنسان، لا نصف إنسان أو جزء إنسان أو حصّة منه، فلا معنى للحصّةأصلاً.
وبالجملة: هذا الإشكال بمكان من الضعف يغني تصوّر الكلّي عن ردّه،والعجب أنّ بعض أعاظم العصر ادّعى البداهة لما اختاره من الحصصللكلّي(3) مع كونه ضروري الفساد(4)، إنتهى كلامه.
وهو حقّ متين، فالاستدلال بهذا الوجه على عدم جريان الاستصحاب فيالقسم الثالث من الكلّي غير تامّ.
البحث في كلام صاحب الكفاية في المسألة
- (1) فوائد الاُصول 4: 424.
- (2) مغزى الكلام: مقصده. م ح ـ ى.
- (3) فوائد الاُصول 4: 424.
- (4) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 133.
ج6
ومنها: ما استدلّ به المحقّق الخراساني رحمهالله ، وهو أنّ الطبيعي يتعدّد بتعدّدأفراده، والكلّي في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر، فالقضيّة المشكوكة فياستصحاب القسم الثالث من الكلّي غير المتيقّنة، مع أنّ الاتّحاد بينهما شرط فيجريان الاستصحاب(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» بأنّ الكلّي الموجودفي ضمن فرد وإن كان مغايراً عقلاً للكلّي الموجود في ضمن فرد آخر كما حقّقفي محلّه، إلاّ أنّ جريان الاستصحاب لا يتوقّف على الوحدة العقليّة، بل الميزانوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً، ولا إشكال في اختلاف الكلّيّاتبالنسبة إلى أفرادها لدى العرف.
توضيحه: أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع الذي هي تحته، كزيدوعمرو بالنسبة إلى الإنسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب، كزيدوحمار بالنسبة إلى الحيوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أوالبعيد، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضي الذي هي تحته، كزيد وعمروبالنسبة إلى الأسود أو الأبيض، أو بالنسبة إلى العالم أو الجاهل.
ولا يخفى أنّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيّات مختلفة عرفاً، فإنّه لا يرى إنسانيّةزيد مغايرة لإنسانيّة عمرو مثلاً، وهكذا لا يرى حيوانيّة بقر مغايرة لحيوانيّةحمار مثلاً، فإذا علمنا بوجود الإنسان في الدار في ضمن زيد ثمّ علمنا بخروجزيد منها واحتملنا وجود عمرو فيها مقارناً لوجوده أو لخروجه لا إشكال فيجريان استصحاب الإنسان؛ لأنّ الإنسان في ضمن زيد لا يغاير عرفالإنسان في ضمن عمرو، وكذا إذا علمنا بوجود الحيوان في الدار في ضمن بقرثمّ علمنا بخروج هذا البقر منها واحتملنا وجود حمار فيها مقارناً لوجوده أو
(صفحه166)
لخروجه لا إشكال في جريان استصحاب الحيوان؛ لأنّ الحيوان في ضمن البقرلا يغاير عرفاً الحيوان في ضمن الحمار، بخلاف ما إذا علمنا بوجود الحيوان فيالدار في ضمن زيد ثمّ علمنا بخروج زيد منها واحتملنا وجود حمار فيهمقارناً لوجوده أو لخروجه، فإنّ الإنسان وإن كان حيواناً عند المنطقيّين، ولذعرّفوه بأنّه «حيوان ناطق» إلاّ أنّ العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان،فلا يجري استصحاب الحيوان في هذا المثال.
وبالجملة: إذا كانت القضيّة المتيقّنة متّحدة مع المشكوكة عند العرف يجريالاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي، وإذا لم تكونا كذلك فلا يجري، ولعبرة بالوحدة العقليّة وعدمها(1).
هذا حاصل بيان سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام، وهو حقّمتين.
وإن شئت قلت بجريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي مطلقاً منغير التصريح بالتفصيل بين ما إذا اتّحدت القضيّتان عرفاً وبين غيره؛ لأنّالاتّحاد بينهما من شرائط جريان الاستصحاب في جميع الموارد حتّى فياستصحاب الفرد المعيّن، فعدم جريانه في بعض موارد القسم الثالث من الكلّيـ وهو ما إذا لم تتّحد القضيّتان ـ إنّما هو لاختلال الشرط المعتبر في جميعالموارد، فلا يسمّى هذا تفصيلاً بين موارد القسم الثالث من استصحاب الكلّي.
القول فيما أفاده المحقّق الخوئي«مدّ ظلّه» في المسألة
ومنها: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الكلّي لا وجود له إلاّ في ضمنالفرد، فهو حين وجوده متخصّص بإحدى الخصوصيّات الفرديّة، فالعلم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 134.
ج6
بوجود فرد معيّن يوجب العلم بحدوث الكلّي بنحو الانحصار ـ أي يوجبالعلم بوجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة هذا الفرد ـ وأمّا وجود الكلّيالمتخصّص بخصوصيّة فرد آخر فلم يكن معلوماً لنا، فما هو المعلوم لنا قدارتفع يقيناً، وما هو محتمل للبقاء لم يكن معلوماً لنا، فلا يكون الشكّ متعلّقببقاء ما تعلّق به اليقين، فلا يجري فيه الاستصحاب(1)، إنتهى كلامه.
وفيه: أنّ الكلّي وإن لم يوجد إلاّ في ضمن فرده، إلاّ أنّ تغاير الأفراد ليستلزم تغايره، فالإنسانيّة التي في ضمن زيد مثلاً لا تغاير الإنسانيّة التي فيضمن عمرو، إذ لكلّ منهما جهات شخصيّة وجهة مشتركة مع الآخر، وهيالإنسانيّة، واستصحاب الكلّي عبارة عن الحكم ببقاء الجهة المشتركة مع قطعالنظر عن الجهات الشخصيّة، فإذا علمنا بوجود زيد في الدار ثمّ علمنبخروجه عنها مع احتمال دخول عمرو فيها مقارناً لدخول زيد أو لخروجهيصدق أن يُقال: كان الإنسان في الدار والآن نشكّ في بقائه فيها، فيستصحب.
إشكال آخر على استصحاب القسم الثالث من الكلّي
ومنها: أنّ جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي يستلزم الحكمبعدم جواز مسّ كتابة القرآن لمن احتمل الجنابة في حال النوم وتوضّأ بعدالانتباه، لأنّه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقّه كان اللازم ترتيبالأحكام المشتركة بين الحدث الناشئ من النوم والجنابة عليه ما دام لميغتسل، كعدم جواز مسّ المصحف، مع أنّه لا يمكن الالتزام به، لأنّ كفايةالوضوء حينئذٍ من الواضحات، وهذا يكشف عن عدم جريان الاستصحابفي هذا القسم من الكلّي.
- (1) مصباح الاُصول 3: 114.