فدعوى تقدّم النسخ على التخصيص في المقام، لدوران الأمر واقعبين تقييد الخاصّ بالعامّ وتخصيص العامّ بالخاصّ، وقلنا بتقدّم التقييدعلى التخصيص عند الدوران بينهما، ممنوعة، بأنّ تقدّم التقييد علىالتخصيص إنّما يكون فيما إذا كان بينهما تعارض، كالعامّين من وجه، فإذقال: «أكرم العلماء» وقال أيضاً: «لا تكرم الفاسق» يتعارضان فيمادّة الاجتماع، ويقدّم العامّ على المطلق، لكونه بيانا له وقاطعا لصحّةاحتجاج العبد به كما تقدّم(2)، ولولاه لرجعنا في مورد الاجتماع إلى أخبارالعلاج، بخلاف العموم والخصوص المطلقين، إذ لا تعارض بينهما عرفا فيوعاء التقنين.
ومنه ظهر وجه تقدّم التخصيص على النسخ على تقدير استفادة الاستمرارمن كون الخاصّ قضيّة حقيقيّة، فإنّ القضيّة الحقيقيّة ـ كما عرفت آنفا ـ تدلّعلى الاستمرار بنحو من العموم، فإذا كان الخاصّ الدالّ بالإطلاق علىالاستمرار مخصّصا للعامّ فالخاصّ الدالّ بالعموم عليه يكون مخصّصا لهبطريق أولى، فإنّه دليل لفظي، فهو أقوى من الإطلاق الذي ليس كذلك.
كان معناه: «كلّ من وجد في الخارج واتّصف بكونه عالما فاسقا يحرم إكرامه»فكأنّه قال: «يحرم إكرام العالم الفاسق في هذا الاُسبوع وفي الاُسبوع الآتي وفيالاُسبوع الثالث» وهكذا، فهو بلسانه يبيّن حكم ما بعد صدور العامّ بالنسبةإلى العالم الفاسق، فهو أولى بتخصيص العامّ ممّا إذا استفيد استمرار حكمالخاصّ من الإطلاق.
وهكذا إذا كان الدليل على الاستمرار مثل قوله: «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلالأبداً إلى يوم القيامة إلخ» فإنّه إذا انضمّ إلى الخاصّ المتقدّم كان استمرار حكمهبالدليل اللفظي كما هو ظاهر.
هذا تمام الكلام في معلومي التاريخ.
حكم دوران الأمر بين النسخ والتخصيص في مجهولي التاريخ
وأمّا مع الجهل بتاريخهما والشكّ في النسخ والتخصيص الناشئ من الشكّ فيأنّ الخاصّ هل ورد بعد حضور وقت العمل بالعامّ، فيكون ناسخا له، أو قبلحضوره(1)، فيكون مخصّصا له.
فهل يمكن القول بتقدّم التخصيص، لغلبته على النسخ وأنّ الظنّ يلحقالشيء بالأعمّ الأغلب؟
أقول: لا، لأنّ الظنّ وإن كان يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب، إلاّ أنّه لا دليلعلى حجّيّة هذا الظنّ.
نعم، يمكن أن يقال: إنّ العقلاء لا يعتنون باحتمال النسخ في مثل المقام.
توضيح ذلك: أنّ العقلاء كما لا يعتنون بالاحتمال النادر في مقابل الكثرةـ كما في الشبهة غير المحصورة ـ كذلك لا يعتنون باحتمال النسخ الذي لا يعلم
- (1) سواء ورد قبل صدور العامّ أو بعده وقبل حضور وقت العمل به. م ح ـ ى.
(صفحه420)
وقوعه في الشريعة إلاّ في موارد نادرة جدّا في مقابل التخصيص الرائج الشائعبمثابة قيل فيه: «ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» فملاك عدم الاعتناء بالاحتمالالنادر في الشبهة غير المحصورة موجود هنا أيضاً.
فكأنّ المقام ليس من موارد دوران الأمر بين النسخ والتخصيص،لأنّ احتمال النسخ وإن كان موجودا واقعا، إلاّ أنّه غير مرئيّبنظر العقلاء.
دوران الأمر بين التقييد وبين الحمل على الاستحباب أو الكراهة
ومنها(1): ما إذا دار الأمر بين تقييد المطلق وبين حمل الأمر علىالاستحباب أو النهي على الكراهة، كما إذا قال: «أعتق رقبةً» و«لا تعتق رقبةًكافرة» أو قال: «إن ظاهرت فأعتق رقبةً» و«إن ظاهرت فأعتق رقبةً مؤمنة»فالأمر دائر بين حمل المطلق على المقيّد وبين حمل الأمر في المقيّد علىالاستحباب(2) والنهي على الكراهة(3)، كحمل الأمر في قوله: «صلّوا فيالمسجد» على الاستحباب، وحمل النهي في قوله: «لا تصلّ في الحمّام» علىالكراهة، من دون تقييد قوله: «أقيموا الصلاة» بهما.
نظريّة المحقّق المؤسّس الحائري رحمهالله في المقام
قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في مجلس الدرس: ذهب شيخنالعلاّمة الحائري رحمهالله إلى تقدّم حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب والنهي علىالكراهة، وقال: يصعب عليّ حمل المطلق على المقيّد بعد انعقاد الظهور للمطلق
- (1) أي من الموارد التي قيل بكونها من قبيل الأظهر والظاهر. م ح ـ ى.
- (2) فيدلّ على أنّ عتق المؤمنة أفضل فردي الواجب. م ح ـ ى.
- (3) فيدلّ على أنّ عتق الكافرة أخسّ فردي الواجب. م ح ـ ى.
ج6
في الإطلاق، سيّما أنّ استعمال الأمر في الندب كان شايعا في عرف الأئمّة عليهمالسلام وكذا استعمال النهي في الكراهة(1).
فعلى هذا ظهور المطلق في الإطلاق أقوى من ظهور الأمر بالمقيّد فيالوجوب والنهي عنه في الحرمة.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في المسألة
ثمّ فصّل سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» تفصيلاً متينا، وهو أنّالإطلاق في مقام البيان قد يقع في جواب سؤال من يريد العمل به، كما لو سألرجل عن تكليفه الفعلي فيما إذا ظاهر امرأته، فقال الإمام عليهالسلام له: «إن ظاهرتفأعتق رقبةً» فأخذ بإطلاقه وأعتق رقبةً كافرة، ثمّ بعده ورد دليل على أنّه«إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» أو «لا تعتق رقبةً كافرة» ففي مثل ذلكيكون حمل الأمر على الاستحباب والنهي على الكراهة أقوى، بل متعيّنا، لأنّفي تقييد الإطلاق محذور الإغراء بالجهل الممتنع، وأمّا حمل الأمر علىالاستحباب أو النهي على الكراهة فلا محذور فيه.
وقد يقع الإطلاق في مقام البيان في جواب مثل زرارة ومحمّد بن مسلموأمثالهما من الفقهاء وأصحاب الجوامع والاُصول ممّن لا يكون مقصده عملنفسه، بل جمع المسائل وتدوين الكتب لمراجعة من تأخّر عن المعصومين عليهمالسلام .
فحينئذٍ إن قلنا بأنّ الأمر والنهي وضعا للوجوب والحرمة فالحمل عليهموتقييد الإطلاق أولى؛ لأنّ الإطلاق لا يكون من قبيل ظهور اللفظ، بل إنّميحكم به من السكوت في مقام البيان، والأمر والنهي بمالهما من الظهور يصيرانبيانا له، وذكر المطلقات ثمّ بيان القيود منفصلةً عنها أمر متعارف في مقام
- (1) كما قال في معالم الدين وملاذ المجتهدين: 53 و 90.