ج6
أمّا المقام الأوّل: فالحقّ فيه عدم حجّيّة مثبتات الاُصول، والسرّ فيه مأفاده سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه»:
قال ما حاصله: وأمّا الاُصول ـ وعمدتها الاستصحاب ـ فالسرّ في عدمحجّيّة مثبتاتها يتّضح بعد التنبيه على أمرين:
أحدهما: أنّ اليقين إذا تعلّق بشيء يكون له لازم وملازم وملزوم ويكونلكلّ منها أثر شرعي يصير تعلّق اليقين به موجبا لتعلّق يقين آخر على لازمهويقين آخر على ملازمه ويقين آخر على ملزومه، لأنّ اليقين صفة قائمةبطرفين: أحدهما: نفس الإنسان، والآخر: هو الشيء المتيقّن، فيتكثّر بتكثّرأحدهما أو كليهما، وحيث إنّه إذا كان شيء متيقّنا كان لازمه وملزومهوملازمه أيضاً كذلك لا محالة ـ لما قلنا من عدم إمكان التفكيك بينهما تكوينا فاليقين بالشيء يوجب اليقين بلازمه وملزومه وملازمه، ويترتّب آثارجميعها، لأنّ اليقين بكلّ متعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتيب أثره الشرعي،وإن كان بعض اليقينات معلولاً لبعض آخر.
ثانيهما: أنّ الكبرى الكلّيّة في الاستصحاب، وهي قوله عليهالسلام : «لا ينقضاليقين أبدا بالشكّ»(1) إمّا أن يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيه مقامالمتيقّن في ترتيب الآثار، فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن علىالمشكوك فيه ـ كما هو الظاهر من الشيخ ـ وإمّا أن يكون المراد منها إبقاء اليقينفي اعتبار الشرع وإطالة عمره وعدم نقضه بالشكّ، لكونه أمرا مبرما لينقض بما ليس كذلك، فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاءاليقين الطريقي في مقام العمل، كما هو المختار.
وكيف كان، فلا يترتّب على الاستصحاب آثار اللوازم العقليّة والعاديّة،
- (1) وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه240)
لأنّها ليست آثارا للمتيقّن، بل تكون آثار لوازمه، فعدم ترتّبها ليس نقضالمتيقّن(1) بالمشكوك فيه، ولا نقض اليقين(2) بالشكّ حتّى يحرم بمقتضى «لتنقض اليقين بالشكّ» فإذا نذرنا التصدّق عند بلوغ زيد عشرين سنة مثلاً ثمّاستصحبنا حياته فالأثر الشرعي لا يكون للمتيقّن، أعني الحياة، بل للازمه،أعني بلوغه عشرين سنة، فالذي تعلّق به اليقين لا يكون ذا أثر شرعي، وميكون ذا أثر لم يتعلّق به اليقين، فكيف يشمله دليل الاستصحاب مع أنّعنوانه نقض المتيقّن بالمشكوك فيه على رأي الشيخ، ونقض اليقين بالشكّ علىما اخترناه؟
وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله من عدم تحقّق الإطلاق في أدلّةالاُصول فغير صحيح، لأنّا لا نحتاج إليه بعد خروج المثبتات منها تخصّصا،لعدم شمول عنوان الدليل ـ أعني «نقض اليقين بالشكّ» ـ لها، لأنّ بلوغ زيدعشرين سنة مثلاً ليس له حالة سابقة وجوديّة متيقّنة، بل عدمه كان متيّقنا،فلا يعمّه دليل الاستصحاب حتّى يترتّب عليه أثره، أعني وجوب التصدّق،نعم، حياة زيد كانت متيقّنةً، إلاّ أنّ الأثر ليس أثراً لها، بل هو أثر لازمها كمقلنا آنفا، فقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» مطلق عندنا، وعدم شمولهللمثبتات إنّما هو لعدم شمول عنوانه لها، لا لوجود القدر المتيقّن في مقامالتخاطب بعد شمول العنوان.
وبهذا ظهر ضعف ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله من أنّ الوجه في عدم اعتبارمثبتات الاُصول عدم قابليّة اللوازم العقليّة والعاديّة للجعل الشرعي، فإنّه وإنكان صحيحا في نفسه، إلاّ أنّه لا يرتبط بالمقام، لأنّ المثبتات لا تكون حجّة
- (1) هذا ناظر إلى مذهب الشيخ رحمهالله . م ح ـ ى.
- (2) هذا ناظر إلى مذهب الاُستاذ نفسه«مدّ ظلّه». م ح ـ ى.
ج6
ولو فرضنا إمكان جعل اللوازم شرعا، وذلك لأنّ عنوان دليل الأصل ليعمّها كما عرفت(1).
البحث حول الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم الشرعيّة
وأمّا المقام الثاني: فلابدّ قبل شروع البحث فيه من ذكر مثال تقريبللأذهان:
مثّل له سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» باستصحاب عدالة زيد، فإنّهذات أثر شرعي، وهو جواز قبول شهادته، وهذا الأثر الشرعي له أيضاً أثرشرعي، وهو أنّه إذا شهد برؤية هلال شوّال عند الحاكم وضمّ إليه شاهد آخرفبحكم الحاكم يثبت عيديّة الغدو يحرم الصوم ويجب أو يستحبّ صلاةالعيد(2).
ويمكن المناقشة في هذا المثال بأنّ محلّ النزاع ـ كما قلنا ـ فيما إذلم يكن للاّزم حالة سابقة متيقّنة، وإلاّ جرى الاستصحاب فيه نفسه، والمثالمن هذا القبيل، لأنّ عدالة زيد إذا كانت متيقّنة سابقا فجواز قبول شهادتهأيضاً كان متيقّنا، فيجري الاستصحاب فيه ويترتّب عليه أثره الشرعي بلواسطة شيء أصلاً.
والمثال الصحيح للمقام: هو استصحاب مطهّريّة ماء كان مطهّرا سابقا،والآن نشكّ في بقاء مطهّريّته، فإنّ أثرها أنّ اليد المتنجّسة المغسولة به تصيرطاهرة، وهذا أثر شرعي يترتّب عليه أثر شرعي آخر، وهو طهارة الثوبالملاقي لهذه اليد، أي عدم تنجّسه بها، فطهارة اليد التي هي أثر لمطهّريّة الماء
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 178.
- (2) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 182.
(صفحه242)
ليست ذات حالة سابقة متيقّنة، بل نجاستها كانت متيقّنة، فلا يرد على هذالمثال ما أوردناه على مثال سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه العالي».
وكيف كان، فالإيراد على المثال ليس بمهمّ بعد وضوح محلّ النزاع، فلنشرعفي بيان ما هو الحقّ في المسألة، فنقول:
لا فرق في عدم شمول أدلّة الاُصول للآثار مع الواسطة بين أن تكونالواسطة لازما عقليّا أو عاديّا وبين أن تكون لازما شرعيّا، لأنّ قوله: «لتنقض اليقين بالشكّ» كما لا يشمل في مثال استصحاب الحياة بلوغ زيدعشرين سنة، لعدم تعلّق اليقين به، فلا يترتّب عليه وجوب التصدّق، فكذلكلا يشمل في مثال استصحاب المطهّريّة طهارة اليد المغسولة بالماء الذي شكّ فيبقاء مطهّريّته، لعدم تعلّق اليقين بها أيضاً، فلا يترتّب عليه طهارة ملاقي اليد،وطهارة ملاقي اليد ليست أثراً للمستصحب ـ أعني مطهّريّة الماء ـ بل هي أثرللازمه الشرعي، فإذا استصحبنا مطهّريّة الماء يترتّب عليه طهارة اليدالمغسولة به بمقتضى قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا طهارة ملاقي اليد، لعدمكونها أثراً لنفس المستصحب كما هو واضح، فلا يثبتها دليل الاستصحاب.
والحاصل: أنّ ما قلنا في باب اللوازم العقليّة والعاديّة يجري هاهنا أيضطابق النعل بالنعل.
امتناع إثبات الموضوع بالحكم
ويرد في المقام إشكال آخر أيضاً، وهو أنّ دليل الأصل لا يمكن أن يتكفّلأثر الواسطة إذا كانت شرعيّة، لأنّ الواسطة يكون تحقّقها بنفس التعبّد، وليمكن أن يكون الدليل المتكفّل للتعبّد بالواسطة متكفّلاً للتعبّد بأثرها، لأنّالواسطة متقدّمة على أثرها، لكونها موضوعا له، فلابدّ من جعل الواسطة
ج6
والتعبّد بها أوّلاً وجعل أثرها والتعبّد به في الرتبة المتأخّرة عن الجعل الأوّل،ولا يمكن أن يكون الجعل الواحد والدليل الفارد متكفّلاً لهما، للزوم تقدّمالشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم.
وهذا الإشكال لا يرد على ما إذا كانت الواسطة عقليّة أو عاديّة كما هوواضح. ولا يمكن الجواب عنه بما تقدّم في مسألة حجّيّة الخبر الواحد.
توضيحه: أنّ هذا الإشكال نظير ما سبق في شمول أدلّة حجّيّة خبر الثقةالأخبار مع الواسطة، وتقريبه ـ كما تقدّم هناك(1) ـ أنّ الخبر إذا كان بلا واسطة،كإخبار زرارة مثلاً عن الباقر عليهالسلام فلا إشكال في شمول قوله: «صدّق العادل»له، وأمّا إذا كان مع الواسطة، كإخبار محمّد بن مسلم عن زرارة عن الباقر عليهالسلام فلا يمكن أن يشمله دليل حجّيّة خبر العادل، لاستلزامه تقدّم الشيء علىنفسه وإثبات الموضوع بالحكم، لأنّ دليل الحجّيّة لابدّ من أن يجعل خبرمحمّد بن مسلم حجّة أوّلاً ليثبت خبر زرارة تعبّدا ويكون موضوعا تعبّديّلنفس دليل الحجّيّة، فيجعله حجّةً في الرتبة المتأخّرة، وهذا تقدّم الشيء علىنفسه وإثبات الموضوع بالحكم، وهو محال.
وقد اُجيب عن الإشكال هناك بوجوه ثلاثة:
أحدها: أنّ قوله: «صدّق العادل» قضيّة حقيقيّة أو طبيعيّة تنطبق على كلّمصداق وجد منها، ولو كان مصداقا تعبّديّا، فإذا أخبرنا محمّد بن مسلم بخبرزرارة عن الباقر عليهالسلام فلابدّ من وجوب تصديق محمّد بن مسلم ابتداءً، لأنّهمصداق حقيقي لقوله: «صدّق العادل» ثمّ يتولّد منه قول عادل آخر، وهو خبرزرارة، فيصير مصداقا تعبّديّا له، فيشمل الإخبار مع الواسطة كما يشملالإخبار بلا واسطة.
- (1) راجع ص311 من الجزء الرابع.