ج6
نفسه متعرّضا لها، فإنّه يدلّ على وجوب إكرام العلماء فقط، من دون أن يحكمبأنّ الفاسق عالم أم لا، فقوله: «الفسّاق ليسوا من العلماء» متعرّض لجهة منجهات قوله: «أكرم العلماء» من دون أن يدلّ هذا بمدلوله المطابقي عليها، وهذهو الوجه لتقديمه عليه، ويسمّى حكومة.
وهكذا الحال في تقدّم قوله: «سلام العالم إكرام له» و«الموسيقي ليس بعلم»على قوله: «أكرم العلماء».
فعلى هذا قد يتحقّق التعارض بين العامّين من وجه، كما إذا قال: «أكرمالعلماء» و«لا تكرم الفسّاق» فإنّ كلاًّ منهما بعمومه متعرّض لحكم العالم الفاسقالذي هو مادّة اجتماعهما، فيتعارضان فيه، لأجل تنافيهما فيه.
وقد يتحقّق بينهما الحكومة، كما إذا بدّلنا «لا تكرم الفسّاق» بقولنا:«الفسّاق ليسوا من العلماء» فإنّه كما عرفت متعرّض لجهة من جهات قوله:«أكرم العلماء» ممّا لا يتعرّضها ذلك، فلا منافاة بينهما أصلاً، فلا وجهللتعارض.
وهكذا لو قال: «ما أردت إكرام الفسّاق» أو «لا صلاح في إكرامهم»أو «ليس الفسّاق أهلاً للإكرام» أو نحوها، فكلّ واحد من هذهالتعبيرات حاكم على قوله: «أكرم العلماء» مع أنّ النسبة بينه وبينها عموممن وجه.
نتيجة الحكومة
والحكومة قد تنتج نتيجة التخصيص(1)، كما إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال:
- (1) وما تقدّم من حكومة قوله: «الفسّاق ليسوا من العلماء» على قوله: «أكرم العلماء» كان أيضاً ينتج نتيجةالتخصيص. م ح ـ ى.
(صفحه346)
«الفسّاق من العلماء ليسوا منهم» فالدليل الثاني متعرّض لجهة من جهاتموضوع الدليل الأوّل من غير أن يتعرّض نفسه لها، فهو حاكم عليه.
نعم، لو بدّل قوله: «الفسّاق من العلماء ليسوا منهم» بـ «لا تكرم الفسّاق منالعلماء» لكان من قبيل التخصيص الاصطلاحي الذي ملاكه الأقوائيّة فيالظهور، فإنّ كلاًّ منهما متعرّض لحكم العالم الفاسق، إلاّ أنّ الثاني أقوى ظهورمن الأوّل.
وقد تنتج نتيجة التقييد، مثال ذلك تقدّم قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِىالدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(1) على قوله: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِفَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَىالْكَعْبَيْنِ»(2).
فإنّ هذه الآية تدلّ على وجوب الوضوء مطلقا، سواء كان حرجيّأم لا(3)، وتلك تدلّ على نفي جعل الحرج في الدين، فتقيّد بها آية وجوبالوضوء، وحيث كان هذا التقييد بلسان نفي الحرج في الدين ولا يتعرّضه آيةالوضوء بمدلولها المطابقي لا يكون تقييدا اصطلاحيّا، بل حكومة نتيجتهالتقييد.
لا يقال: آية الوضوء تدلّ على جعل وجوب الوضوء مطلقا، حرجيّا كانأم لا، فهي مثبتة لجعل الحرج، وآية الحرج نافية له، فكلّ منهما متعرّض له،فلا يكون تقدّم آية الحرج على آية الوضوء من باب الحكومة، بل من بابالتقييد الاصطلاحي.
- (3) فإنّ ذيلها وإن أمر بالتيمّم عند فقد الماء إلاّ أنّها مطلقة في صورة وجدان الماء، أي تشمل الوضوءالحرجي وغيره. منه مدّ ظلّه.
ج6
فإنّه يقال: آية الوضوء تدلّ بالمطابقة على وجوب الوضوء، وأمّا جعلالحرج فهو مدلولها الالتزامي لا المطابقي، فهي لا تكون بلفظها متعرّضةً لمتعرّضته آية الحرج.
نعم، لو قيل مكان آية الحرج: «لا يجب الوضوء الحرجي» لكان تقييداصطلاحيّا(1).
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في الحكومة والورود
والورود أيضاً عند سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» كثيرا ما يكونمن نتائج الحكومة وثمراتها، وليس في عرضها، فإنّ حيثيّة تقدّم دليل لفظيعلى دليل لفظي آخر ليست إلاّ على نحوين: أحدهما: التقدّم الظهوري،والثاني: التقدّم على وجه الحكومة، سواء كانت نتيجتها رفع الموضوع حكمأو رفعه حقيقةً، فالورود ليس من أنحاء تقديم دليل لفظي على دليل آخر فيمقابل التخصيص والحكومة.
وإن شئت قلت: تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوري وعلىنحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات، فلا يعقل قسم آخر فيالأدلّة اللفظيّة يسمّى ورودا، فإنّ أحد الدليلين إمّا أن يتعرّضلما يتعرّضه الدليل الآخر أو يتعرّض لما لا يتعرّضه، والتقديم في الأوّلمن باب الأقوائيّة في الظهور، وفي الثاني من باب الحكومة، ولا ثالثلهما، فليس لنا ملاك آخر للتقدّم كي نسمّيه ورودا، فإنّ أتمّ مصاديقالورود عندهم أن يقال: «أكرم العالم» و«ليس زيد بعالم» مع أنّ تقدّم الثاني
- (1) فتبيّن أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ والمقيّد على المطلق قد يكون ملاكه الأقوائيّة في الظهور ويسمّىتخصيصا وتقييدا، وقد يكون الملاك تعرّض الخاصّ والمقيّد لما لا يتعرّضه العامّ والمطلق، ويسمّىحكومةً. م ح ـ ى.
(صفحه348)
لا يكون إلاّ بملاك تعرّضه لما لا يتعرّضه الأوّل، فالورود قسم من الحكومة،لا في عرضها.
نعم، لا بأس بتسمية تقديم بعض الأدلّة اللبّيّة على بعض ـ كتقدّم بناءالعقلاء على العمل بخبر الثقة على قبح العقاب بلا بيان ـ بالورود، كما أنّه لبأس بتسمية تقدّم بعض الأدلّة اللفظيّة على بعض الأدلّة اللبّيّة ـ كتقدّم أدلّةالأمارات والاستصحاب على قبح العقاب بلا بيان ـ بالورود، وأمّا في الدليليناللفظيّين فلا يعقل الورود في عرض الحكومة(1).
هذا حاصل كلام الإمام«مدّ ظلّه العالي» في المقام.
الحقّ في الفرق بين الورود والحكومة
أقول: قوله«مدّ ظلّه»: «تقسيم تقدّم دليل على آخر بين التقدّم الظهوري وعلىنحو الحكومة حاصر دائر بين النفي والإثبات إلخ» صحيح لو جعلنا المقسم فيالتقسيم الدلالة اللفظيّة، ولكن يمكن أن يتقدّم دليل على آخر بملاك غير الدلالةاللفظيّة، فلا محالة يكون ملاكا ثالثا غير داخل في ذلك المقسم، وهو أن يكوندليل بوجوده(2) رافعا لموضوع دليل آخر حقيقةً، وهذا يسمّى ورودا،لا حكومةً، ولهذا الملاك دائرة واسعة، فإنّه قد يتحقّق في تقدّم دليل لبّي علىلبّي آخر، وقد يتحقّق في تقدّم دليل لفظي على لبّي، وقد يتحقّق في تقدّم دليللفظي على دليل لفظي آخر، فإنّ تقدّم الأمارات على أصالة البراءة العقليّة ليكون إلاّ بملاك الورود، فإنّ قوله: «شرب التتن حرام» فرضا نفس وجودهبيان رافع لموضوع البراءة العقليّة من دون أن يكون بحسب دلالته متعرّضا لم
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 240.
- (2) لا بدلالته اللفظيّة. م ح ـ ى.
ج6
لا يتعرّضه البراءة العقليّة من موضوعها أو حكمها أو غير ذلك، فإنّ مفادهاللفظي حرمة شرب التتن، ومفادها قبح العقاب بلا بيان، وليس لسانه «أنبيان» حتّى يكون تقدّمه عليها من باب الحكومة،لكن نفس وجوده يكونبيانا، فتقدّمه عليها يكون ورودا، والوارد في هذا المثال دليل لفظي والموروددليل لبّي.
الحقّ في وجه تقدّم الأمارات على الاستصحاب
وتقدّم الأمارات على الاستصحاب أيضاً يكون بنحو الورود، لأنّه إذقامت رواية معتبرة على عدم وجوب صلاة الجمعة مثلاً يكون نفسوجودها(1) بمقتضى دليل اعتبارها حجّة، فلا مجال للتمسّك بقوله: «لا تنقضاليقينبالشكّ» إذ لامورد له بملاحظة ماعرفت(2) منأنّ معناه «لا تنقض الحجّةبغيرالحجّة» فالأمارات متقدّمة علىالاستصحاب بنحوالورود، سواءكان دليلحجّيّتها لفظيّا أو بناء العقلاء، وكلّ من الوارد والمورود هاهنا دليل لفظي.
فدائرة الورود واسعة، بخلاف الحكومة، فإنّها لا تتحقّق إلاّ بين دليلينلفظيّين.
فتحصّل من ذلك أنّ تقدّم الأمارات على الاستصحاب يكون بنحوالورود، وهو لا يكون قسما من الحكومة كما تخيّله سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه».
هذا هو الفرق بين الحكومة والورود.
الفرق بين التخصّص والورود
- (1) ولا يكون مدلولها اللفظي حجّيّتها، فإنّها لا تقول: «أنا حجّة» فلا تكون بدلالتها متعرّضة لجهة من جهاتدليل الاستصحاب حتّى تكون حاكمة عليه، بل نفس وجودها حجّة ورافع لموضوع دليل الاستصحاب،فتقدّمها عليه لا يكون إلاّ بنحو الورود. منه مدّ ظلّه.