ج6
من الخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام منقول في كتب العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وهذا يكشف عن أنّ العمومات النبويّة كانت متّصلة بمخصّصاتها ثمّ اختفتالمخصّصات علينا(1).
الثالث: أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يكون قبيحا فيما إذا صدرالعامّ لبيان الحكم الواقعي، ويمكن أن يكون المخاطبون بالعامّ في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآله مكلّفين بحسب الظاهر بالعمل على العموم لمصلحة، مع أنّ المراد به الخصوصواقعا وتبيّن لنا ذلك بعد صدور الخاصّ في لسان الأئمّة عليهمالسلام .
وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ رحمهالله لدفع الإشكال.
واختاره المحقّق الخراساني رحمهالله أيضاً حيث قال ما حاصله:
تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يكون قبيحا إذا لم يكن فيه مصلحةأقوى أو في تقديمه مفسدة أقوى، فلم يكن بأس بتخصيص عمومات الكتابوالسنّة بالخصوصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام واستكشاف أنّ موردها كانخارجا عن حكم العامّ واقعا وإن كان داخلاً فيه ظاهرا(2).
وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ رحمهالله وإن كان يخالفه تعبيرا.
حقّ المقال في حلّ الإشكال
والذي يخطر بالبال في حلّ الإشكال أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله بيّن جميع أحكام الإسلام،عموماتها ومخصّصاتها، مطلقاتها ومقيّداتها، محكماتها ومتشابهاتها، وجميع مله دخل فيها، حتّى أرش الخدش كما في بعض الأخبار(3).
- (1) فوائد الاُصول 4: 737.
(صفحه408)
ويشهد عليه أيضاً قوله صلىاللهعليهوآله في حجّة الوداع: «يا أيّها الناس واللّه ما منشيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيءيقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه»(1).
فهو صلىاللهعليهوآله بيّن جميع الأحكام وكتبها عليّ عليهالسلام في صحيفته وأراد تبليغها علىالناس، لكنّه عليهالسلام صار بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مظلوما في حقّه ولم يلتفت الناس إلىصحيفته، بل قالوا: حسبنا كتاب اللّه، وهذا الأمر وإن لم يحتج إلى الإثبات،لتوفّر الدواعي عليه بعد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلاّ أنّ بعض الأخبار يدلّ عليه:
ففي كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّه قال: قلت لعليّ عليهالسلام : يا أمير المؤمنينإنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن ومن الرواية عنالنبيّ صلىاللهعليهوآله ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياءَكثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله تخالف الذي سمعتهمنكم، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل افترى الناس يكذبون على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدين، ويفسّرون القرآن برأيهم.
قال: فأقبل عليّ فقال لي: «يا سليم، قد سألت، فافهم الجواب، إنّ في أيديالناس حقّا وباطلاً، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وخاصّا وعامّا،ومحكما ومتشابها، وحفظاً ووهما، وقد كذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على عهدهحتّى قام فيهم خطيبا فقال: أيّها الناس قد كثرت علىّ الكذّابة، فمن كذب علىّمتعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار، ثمّ كذب عليه من بعده حين توفّي رحمة اللّهعلى نبّي الرحمة وصلّى اللّه عليه وآله، وإنّما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليسلهم خامس:
- (1) الكافي 1: 59، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحراموجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة، الحديث 3.
- (2) الكافي 2: 74، كتاب الإيمان والكفر، باب الطاعة والتقوى، الحديث 2.
ج6
رجل منافق مُظهر للإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم(1) ولا يتحرّج(2) أنيكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدا، فلو علم المسلمون أنّه منافق كذّاب لميقبلوا منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله رآه وسمعمنه وهو لا يكذب ولا يستحلّ الكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقد أخبر اللّه عنالمنافقين بما أخبر، ووصفهم بما وصفهم، فقال اللّه عزّ وجلّ: «وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْتُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(3) ثمّ بقوا بعده، وتقرّبوا إلى أئمّةالضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولّوهم الأعمالوحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم من الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك فيالدنيا(4) إلاّ من عصم اللّه، فهذا أوّل الأربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً فلم يحفظه على وجهه ووهم فيه ولميتعمّد كذبا، وهو في يده يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنّه وهم فيه لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم،أو سمعه نهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظالناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوهلرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسوله، بغضا للكذب، وتخوّفا مناللّه، وتعظيما لرسوله صلىاللهعليهوآله ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كمسمعه، ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ
- (1) لا يتأثّم: أي: لا يخاف الإثم. م ح ـ ى.
- (2) لا يتحرّج: أي: لا يخشى الوقوع في الحرج. م ح ـ ى.
- (4) في نهج البلاغة: 326 «مع الملوك والدنيا». م ح ـ ى.
(صفحه410)
ورفض المنسوخ، وأنّ أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ونهيه مثل القرآن: ناسخ ومنسوخ،وعامّ وخاصّ، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الكلام لهوجهان: كلام خاصّ، وكلام عامّ، مثل القرآن، يسمعه من لا يعرف ما عنى اللّهبه وما عنى به رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان يسأله،فيفهم... وكنت أدخل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كلّ يوم دخلة وفي كلّ ليلة دخلة،فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه لم يكنيصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربما كان ذلك في منزلي، يأتيني رسولاللّه صلىاللهعليهوآله ، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نسائه، فلم يبق غيريوغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابنيّ،وكنت إذا سألته أجابني وإذا سكتّ أو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليهآية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ، فكتبتها بخطّي، ودعا اللّه أن يفهمنيإيّاها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب اللّه منذ حفظتها، وعلّمني تأويلها،فحفظته، وأملاه عليَّ، فكتبته، وما ترك شيئا علّمه اللّه من حلال وحرام، أوأمرٍ ونهي، أو طاعة ومعصية، كان أو يكون إلى يوم القيامة إلاّ وقد علّمنيهوحفظته ولم أنسَ منه حرفا واحداً»(1). الحديث.
أقول: والعلماء وإن اختلفوا في سند الكتاب إلى سليم بن قيس(2)، إلاّ أنّالكشّي اعتمد عليه، على أنّ آثار الصدق تلوح من متن الرواية.
وبالجملة: يستفاد من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله بيّن جميعالأحكام، فالمخصّصات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام كلّها صدرت قبلهم من قبلالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، فلا إشكال في تخصيص الكتاب أو السنّة النبويّة بها.
- (1) كتاب سليم بن قيس الهلالي 2: 620.
- (2) راجع كتب الرجال، سيّما معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي«مدّ ظلّه» ذيل ترجمة «سليم بن قيس»كي يتّضح لك كيفيّة سند كتابه. م ح ـ ى.
ج6
وهذا وإن كان يشبه الوجه الثاني المتقدّم من الشيخ رحمهالله الذي اختاره المحقّقالنائيني، إلاّ أنّه يخالفه في بعض الجهات:
منها: أنّ قضيّة ما ذكرنا أنّ جميع الأحكام الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام صدرتقبلهم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لا المخصّصات فقط.
ومنها: أنّه لا دليل على كون جميع المخصّصات متّصلةً بعموماتها فيكلامه صلىاللهعليهوآله ، فلعلّها كان بعضها أو جميعها منفصلةً عنها، لكنّها صدرت قبلحضور وقت العمل بالعمومات.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل البحث، وهو دوران الأمر بين النسخوالتخصيص، فنقول:
تحرير محلّ النزاع في الدوران بين النسخ والتخصيص
إنّ محلّ البحث إنّما يكون فيما إذا أمكن كلّ منهما وتحقّق شرائط كليهما، وأمّإذا دلّ دليل على عدم إمكان أحدهما لفقد شرطه فهو خارج عن محلّ الكلام.
فما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله ، من أنّ التخصيص مقدّم على النسخ عندالدوران، واستدلّ عليه بأنّه إذا قال: «أكرم العلماء» ثمّ قال: «لا تكرم الفسّاقمن العلماء» يتوقّف النسخ على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد،ومقتضى ما تقدّم(1) من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالةالظهور في طرف العامّ هو عدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ، فيرتفعموضوع النسخ، فاسد(2).
لأنّه خارج عن محلّ النزاع، لتعيّن التخصيص عند ارتفاع موضوع النسخ،
- (2) كلمة «فاسد» خبر لقوله«مدّ ظلّه»: «ما أفاده». م ح ـ ى.