ج6
وقال المحقّق الخراساني رحمهالله : وجهه عدم تماميّة أركان الاستصحاب(1).
ولا ثمرة بين القولين في هذا القسم، لكن تظهر الثمرة في القسم الثاني، أعنيما إذا كان الأثر مترتّبا على عدم أحدهما فقط في زمان حدوث الآخر، ولهأمثلة كثيرة:
منها: ما إذا علم حدوث الكرّيّة والملاقاة وشكّ في المتقدّم منهما،فعدم الكرّيّة في زمان حدوث الملاقاة موضوع للأثر وهو الانفعالوالتنجّس، وأمّا العكس ـ أعني عدم الملاقاة في زمان حدوث الكرّيّة ـ فلا أثرله أصلاً.
ومنها: ما إذا علم موت الوالد وإسلام الولد، وشكّ في المتقدّم منهما، فإنّعدم إسلام الولد في زمان موت الوالد موضوع للأثر، وهو المنع من الإرث،بخلاف العكس، إذ لا أثر لعدم موت الوالد في زمان إسلام الولد.
ففي هذا القسم يجري الاستصحاب بناءً على ما ذهب إليه الشيخ رحمهالله ، لانتفاءالتعارض هاهنا، ولا يجري على مذهب المحقّق الخراساني قدسسره .
وينبغي ذكر مقدّمتين ليتّضح كلامه في الكفاية:
اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في الاستصحاب
الاُولى: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ بزماناليقين(2)، لعدم صدق الشكّ في البقاء لو كان منفصلاً عنه، فإذا قطعنا بالطهارة،ثمّ بالحدث، ثمّ شككنا فيهما لا يجري إلاّ استصحاب الحدث، لانفصال الشكّفيهما عن اليقين بالطهارة واتّصاله باليقين بالحدث.
- (2) المراد من الشكّ واليقين هاهنا المتيقّن والمشكوك، لجواز تحقّق الشكّ واليقين في باب الاستصحابفي آن واحد، بل قد يكون حصول الشكّ قبل حصول اليقين. منه مدّ ظلّه.
(صفحه280)
عدم جواز التمسّك بالدليل في شبهته المصداقيّة
الثانية: أنّهم وإن اختلفوا في جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّةللمخصّص، فقال صاحب العروة بالجواز، وكثير من المحقّقين بعدمه، إلاّ أنّهماتّفقوا على عدم جواز التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّة لنفسه، سواء كانعامّا أو غير عامّ، فلا يجوز التمسّك بقوله: «أكرم العلماء» فيما إذا شكّ في عالميّةزيد، ولا بقوله: «لا تشرب الخمر» فيما إذا شكّ في خمريّة مايع، فلا بدّ في جوازالتمسّك بقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» من إحراز صدق نقض اليقين بالشكّ،وأمّا إذا شككنا في مورد أنّه هل هو من مصاديقه أم لا؟ وبعبارة اُخرى: إذشككنا في أنّ زمان الشكّ هل هو متّصل بزمان اليقين أم لا؟ فلا يجوز التمسّكبدليل الاستصحاب، لأنّه شبهة مصداقيّة له، وقد عرفت اتّفاقهم على عدمجواز التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّة لنفسه.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المسألة
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فاعلم أنّ حاصل كلام المحقّق الخراساني رحمهالله فيالمقام أنّه لم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.
ولابدّ من توضيح كلامه في ضمن مثال:
إذا علمنا بعدم كرّيّة ماء الحوض مثلاً يوم السبت، ثمّ علمنا بصيرورته كرّوملاقاته للنجس، لكن شككنا في أنّ الكرّيّة حدثت يوم الأحد والملاقاة يومالاثنين أو بالعكس، فزمان اليقين بعدم كرّيّته هو يوم السبت وزمان الشكّ فيهـ الذي اُريد استصحابه إليه لترتيب الأثر ـ هو زمان الملاقاة المردّد بين الأحدوالاثنين، إذ الأثر يترتّب على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة، وحيث إنّه مردّد
ج6
بين هذين اليومين فإن كان في الواقع يوم الأحد فزمان الشكّ متّصل بزماناليقين، وأمّا إن كان يوم الاثنين فلا، لانفصاله عنه بيوم الأحد الذي هو زمانالكرّيّة لا محالة، فلم يحرز كون رفع اليد عن اليقين بعدم حدوث الكرّيّة بهذالشكّ من قبيل نقض اليقين بالشكّ.
نعم، إذا لوحظ إضافته إلى أجزاء الزمان فلا إشكال في استصحابه، لأنّنعلم بعدم الكرّيّة يوم السبت ونشكّ في بقائه يوم الأحد، فزمان الشكّ متّصلبزمان اليقين، إلاّ أنّه خلاف الفرض، لأنّ المفروض أنّ موضوع الأثر هو عدمالكرّيّة في زمان الملاقاة، لا عدمها يوم الأحد(1).
هذا حاصل كلامه رحمهالله لإثبات اختلال أركان الاستصحاب في المقام.
نقد نظريّة صاحب الكفاية رحمهالله في المسألة
وفيه: أنّ ما نحن فيه لا يكون من قبيل الشبهة المصداقيّة؛ لأنّها لا تتصوّرإلاّ فيما إذا كان عنوان الدليل منطبقا على أحد طرفي الاحتمال، فإنّ الشكّ فيعالميّة زيد ينحلّ إلى احتمال عالميّته واحتمال عدمها، وعلى الأوّل ينطبق عليهقوله: «أكرم العالم» بخلاف ما نحن فيه، إذ بناءً على احتمال حدوث الملاقاة فييوم الاثنين في المثال الملازم لحدوث الكرّيّة يوم الأحد يكون رفع اليد عناليقين من قبيل نقض اليقين باليقين لا بالشكّ، وبناءً على احتمال حدوثها فييوم الأحد الملازم لحدوث الكرّيّة يوم الاثنين يكون رفع اليد عنه من قبيلنقضه في زمان بقائه لا في زمان الشكّ في البقاء حتّى يصدق عليه نقض اليقينبالشكّ، فلا مجال لتصوير الشبهة المصداقيّة في المقام.
وبهذا ظهر أساس الإشكال في كلامه، وهو أنّه يتحصّل من هذين اليقينين
(صفحه282)
التعليقيّين الشكّ في بقاء عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة، ويكون رفع اليد عناليقين بهذا الشكّ من مصاديق نقض اليقين بالشكّ، فإنّ الشكّ غالبا يحصل منلحاظ اليقينين التعليقيّين معا، ألا ترى أنّك إذا أيقنت بقتل كلّ من كان فيسيّارة بسبب تصادمها مع سيّارة اُخرى وشككت في أنّ صديقك كان فيها أملا، يكون لك يقينان تعليقيّان:
أحدهما: يقينك بقتل صديقك إن كان فيها، والثاني: يقينك بسلامته إن لميكن فيها، ويحصل منهما الشكّ في بقاء سلامته، فيجري استصحابها.
هذا ما خطر ببالي ردّا على كلام المحقّق الخراساني رحمهالله في المقام، ولم أَرَ أحداستشكل به عليه.
إشكال المحقّقين على كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
نعم، ناقش فيه كثير من المحقّقين ـ منهم سيّدنا الاُستاذ«مدّ ظلّه» ـ بوجه آخر،وهو أيضاً إشكال مهمّ، وإليك بيانه:
قالوا: لا يتصوّر الشبهة المصداقيّة في المقام، لأنّ عناوين الموضوعات علىقسمين: واقعيّة خارجيّة، كالخمر والعدالة(1)، ووجدانيّة، كالعلم والشكّونحوهما، وإنّما يتصوّر الشبهة المصداقيّة في القسم الأوّل، لا الثاني، إذ لا يشكّأحد في أنّه هل هو شاكّ في أمر كذائي أم لا؟ ولا في أنّه هل هو متيقّن أم لا؟إلاّ بعض أهل الوسوسة الشاكّ في وجدانيّاته، وهو خارج عن محلّ الكلام.
نعم، يمكن أن يشكّ في وجدانيّات غيره، أو في أنّه كان شاكّا أو متيقّنأمس مثلاً، أو في أنّ شكّه هل تعلّق بهذا الشيء أو بذاك الشيء، كأن يشكّ فيالصلاة في أنّ شكّه هل يكون بين الاثنين والثلاث، أو بين الثلاث والأربع، أمّ
- (1) واقعيّة كلّ شيء بحسبه، فالعدالة أمر واقعي، كما أنّ الخمر كذلك. منه مدّ ظلّه.
ج6
الشكّ في وجدانيّات نفسه فعلاً مع تشخّص متعلّقاتها فلا يتصوّر أصلاً.
فإذا شكّ ابتداءً في أنّ شكّه هل هو متّصل باليقين أم لا؟ رجع إلى وجدانه،فإن كان له يقين بالضدّ متخلّل بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فزمان الشكّمنفصل عن زمان اليقين، وإلاّ فلا، فأين الشبهة المصداقيّة لقوله: «لا تنقضاليقين بالشكّ»؟!
إن قلت: لنا موارد قالوا بعدم جريان الاستصحاب فيها، ولا وجه له إلكونها من قبيل الشبهة المصداقيّة:
منها: ما إذا علم المكلّف بأنّه كان جنبا في أوّل النهار وصار متطهّرا منهجزما، ثمّ رأى في ثوبه منيّا وعلم إجمالاً بأنّه إمّا من جنابته التي قطعبارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة، فإنّه عالم بأنّه صار جنبا عقيبخروج هذا المنيّ، ومع هذا لا يجري استصحاب هذه الجنابة المقطوعة، ولوجه له إلاّ عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين، لأنّ الجنابة أمرهدائر بين التي قطع زوالها وبين التي قطع بقائها، فيحتمل الفصل بين زمان الشكّواليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها، فهذا من قبيل عدم إحراز الاتّصال.
قلت: مجرّد وجدان المنيّ ـ الذي حصل عقيبه الجنابة ـ في الثوب مع العلمبكونه منه لا يكون منشأ للأثر، لأنّ الأثر للجنابة، لا لوجدان المنيّ في الثوب،والمفروض أنّه يعلم بحصول جنابة له أوّل النهار وزوالها بالغسل بعده، ويشكّبدوا في حصول جنابة جديدة له، فعدم جريان الاستصحاب فيه ليس لعدمإحراز الاتّصال، بل لعدم اليقين السابق.
لا يقال: هذا خلط واضح، لأنّ المراد استصحاب الجنابة المقطوعة بعدخروج هذا المنيّ المردّد الذي وجد في الثوب ولم يعلم بارتفاعها، فإنّا نسلّم أنّالمنشأ للأثر هو الجنابة، وندّعي كونها في المقام ذات حالة سابقة متيقّنة.