(صفحه204)
الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ كما إذا شكّ في نسخ الحكمالكلّي المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، فيستصحب بقاء الحكم الكلّيالمترتّب على الموضوع، ولا إشكال أيضاً في استصحاب هذا القسم، ونظيراستصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في النسخ استصحاب الملكيّة المنشأة فيالعقود العهديّة التعليقيّة، كعقد الجعالة والسبق والرماية، فإنّ ملكيّة العوضالمنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المنشأة على موضوعاتها المقدّرةوجودها، فلو شكّ في كون عقد السبق والرماية من العقود اللازمة التي لتنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بفسخ أحدهميجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبلتحقّق السبق وإصابة الرمي.
الوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم الكلّي على موضوعه المقدّر وجوده عندفرض تغيّر بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماءالمتغيّر الذي زال عنه التغيّر من قبل نفسه، ولا إشكال في جريان استصحاببقاء الحكم في هذا الوجه أيضاً.
الوجه الثالث: الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب منجزئين عند فرض وجود أحد جزئيه وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجودالجزء الآخر، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب علىتقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه،فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ويترتّب عليهنجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصف العنبيّة والزبيبيّة من حالاتالموضوع لا أركانه، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليهبالاستصحاب التعليقي.
ج6
وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان:
أقواهما: عدم الجريان، لأنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يكونوجوده وتقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط، لأنّ نسبةالموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، ولا يعقل أن يتقدّم الحكم علىموضوعه، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنّمايكون مركّبا منجزئين: العنب والغليان، من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب، كقوله:«العنب المغليّ يحرم وينجس» أو أخذه شرطا له، كقوله: «العنب إذا غلى يحرموينجس» لأنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده لا محالة، فقبلفرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم، ومع عدم فرض وجودالحكم لا معنى لاستصحاب بقائه، لما تقدّم من أنّه يعتبر في الاستصحابالوجودي أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له،فوجود أحد جزئي الموضوع المركّب كعدمه لا يترتّب عليه الحكم الشرعي ملم ينضمّ إليه الجزء الآخر.
نعم، الأثر المترتّب على أحد جزئي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزءالآخر لترتّب عليه الأثر، وهذا المعنى مع أنّه عقلي، مقطوع البقاء في كلّ مركّبوجد أحد جزئيه، فلا معنى لاستصحابه، وقد تقدّم في مبحث الأقلّ والأكثرأنّه لا يمكن استصحاب الصحّة التأهّليّة لجزء المركّب عند احتمال طروّ القاطعأو المانع، لأنّ الصحّة التأهّليّة ممّا لا شكّ في بقائها، فإنّها عبارة عن كون الجزءعلى وجه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر، ففي ما نحن فيه ليسللعنب المجرّد عن الغليان أثر إلاّ كونه لو انضمّ إليه الغليان لثبتت حرمتهوعرضت عليه النجاسة، وهذا المعنى ممّا لا شكّ في بقائه، فلا معنىلاستصحابه.
(صفحه206)
وحاصل الكلام: أنّ الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنبالمغليّ إنّما يمكن بوجهين: أحدهما: الشكّ في رفع الحرمة والنجاسة عنهبالنسخ، ثانيهما: الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدّل بعض الحالات بعدفرض وجود العنب المغليّ بكلا جزئيه، كما إذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثه،ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كلّ من الوجهينكما تقدّم، وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي، ونحن لا نتصوّرللشكّ في بقاء النجاسة والحرمة للعنب المغليّ وجها آخر غير الوجهينالمتقدّمين، فالاستصحاب التعليقي بمعنى لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيودهوتبدّل بعض حالاته ممّا لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصّل(1)، إنتهىموضع الحاجة من كلامه رحمهالله ملخّصا.
نقد نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويرد عليه أنّ تفسير الاستصحاب التعليقي بما ذكره غير صحيح، لأنّ مهو مورد النقض والإبرام بين الأعلام في الاستصحاب التعليقي هو ما إذوردت قضيّة شرعيّة تعليقيّة وأردنا استصحاب نفس تلك القضيّة التعليقيّةعند الشكّ في بقائها، وأمّا ما ذكره هذا المحقّق الكبير فلا تعليق فيه أصلاً، فإنّالحكم الشرعي إذا تعلّق بموضوع مركّب من جزئين قد وجد أحدهما دونالآخر فلا تعليق في الحكم ولا في الموضوع، فإنّ الشارع إذا قال: «العنبالمغليّ حرام» كان مثل «جائني زيد العالم» فكما أنّ الثاني قضيّة تنجيزيّةفكذلك الأوّل.
- (1) فوائد الاُصول 4: 460 ـ 468.
ج6
نعم، إذا قال: «العنب إذا غلى يحرم» كان مشتملاً على التعليق، لكنّ المحقّقالنائيني رحمهالله ذهب إلى كون التعليق مربوطا بالموضوع الذي هو عنب، لبالحكم الذي هو الحرمة، مع أنّا نريد استصحاب الحكم لا الموضوع، فما هومعلّق على الغليان لا نريد استصحابه، وما نريد استصحابه لا يكون معلّقا،فالاستصحاب ليس تعليقيّا هاهنا أيضاً على مبنى المحقّق النائيني رحمهالله .
وأمّا قوله رحمهالله : «إنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده لا محالة»فهو ما قال به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله أيضاً، حيث ذهب إلى رجوع القيدإلى المادّة، خلافا للمشهور، فإنّهم قائلون برجوعه إلى الهيئة، وللبحث عنهمحلّ آخر، وهو مبحث الواجب المشروط، فتفسير الاستصحاب التعليقي بمذكره تفسير بما لا يرضى صاحبه.
وأمّا قوله: «يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحووجود وتقرّر في الوعاء المناسب له» فإنّه وإن كان صحيحا، إلاّ أنّ الحكمالمعلّق على شيء يكون موجودا قبل تحقّق قيده، فإنّ وجود كلّ حكم بحسبه،فالحكم الفعلي لا يوجد إلاّ بعد تحقّق القيد، وأمّا الحكم التعليقي فيوجد بمجرّدجعل الشارع، وإن أبيت عن ذلك فراجع وجدانك هل يمكن لك القول بأنّ مبعد قول الشارع: «العنب يحرم إذا غلى» وما قبله سواء في عدم وجود الحكمبالحرمة أصلاً؟ فالحكم التعليقي يكون موجودا قبل تحقّق الغليان، فلا مانعمن استصحابه.
وبهذا ظهر ضعف ما أفاده رحمهالله في الهامش من أنّ المنع من جريانالاستصحاب التعليقي لا يتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع وكونه منقيوده ـ كما لا محيص عنه ـ بل يكفي كون الشرط علّةً لحدوث النجاسةوالحرمة للعنب، فإنّه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا حرمة أيضاً، لانتفاء
(صفحه208)
المعلول بانتفاء علّته كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، غايته أنّه في الموضوعيدور بقاء الحكم أيضاً مدار بقاء الموضوع وفي العلّة يمكن أن يكون علّةللحدوث فقط، فالاستصحاب التعليقي لا يجري على كلّ حال(1)،إنتهى كلامه رحمهالله .
وجه الضعف أنّ النجاسة والحرمة الفعليّة تتوقّف على الغليان، لا النجاسةوالحرمة التعليقيّة، فإنّهما معلولتان لجعل الشارع لا للغليان، فإذا قال الشارع:«العنب إذا غلى يحرم وينجس» ثبتت الحرمة والنجاسة التعليقيّة وإن لم يغلبعدُ.
وفي كلام المحقّق النائيني رحمهالله مواضع اُخر للنظر أعرضنا عنها حذرا منالتطويل.
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
والشيخ الأعظم رحمهالله حيث ذهب إلى رجوع القيود إلى المادّة أنكر جريانالاستصحاب التعليقي، لأنّ معنى الاستصحاب التعليقي هو استصحاب الحكمالتعليقي، وليس لنا حكم تعليقي على مبناه كي نستصحبه.
ولأجل ذلك سلك في المقام مسلكا آخر، وهو إجراء استصحاب تنجيزيينتج نتيجة الاستصحاب التعليقي حيث تمسّك باستصحاب سببيّة المعلّق عليهللمعلّق، أو استصحاب الملازمة بينهما، فنقول: الغليان سبب لحرمة العنبالمغليّ، وبعد صيرورته زبيبا نشكّ في بقاء السببيّة، فيجري استصحابها، أونقول: حرمة العنب لازم لغليانه، وبعد صيرورته زبيبا نشكّ في بقاء الملازمةبينهما، فيجري استصحابها(2).
- (1) فوائد الاُصول 4: 467، التعليقة 1.