اعلم أنّ الأحكام التكليفيّة هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهةوالإباحة بالمعنى الأخصّ، وتسمية هذه الخمسة تكليفاً إنّما هي من بابالتغليب، ضرورة أنّه ليس في الإباحة كلفة ومشقّة.
والوجوب: هو البعث إلى الشيء لا علم الشارع بكونه ذا مصلحة ملزمة،ألا ترى أنّ المولى ما لم يأمر بإكرام العلماء مثلاً لا يكون إكرامهم واجباً علىالعبد وإن كان عالماً بأنّ في إكرامهم مصلحة ملزمة، والحرمة أيضاً عبارة عنزجر الشارع عن الشيء لا العلم بكونه ذا مفسدة ملزمة، وهكذا سائرالأحكام التكليفيّة.
والأحكام الوضعيّة ما اعتبره الشارع وقرّره سوى هذه الأحكام الخمسةالتكليفيّة.
والعلاميّة(1) إلى هذه الثلاثة، وقيل: تسعة، بضميمة الصحّة والفساد والعزيمةوالرخصة(2) إلى هذه الخمسة.
لكن هذه الأقوال مخالفة للواقع، لعدم انحصار الوضعيّات فيما ذكر، فإنّالزوجيّة والملكيّة والحرّيّة والرقّيّة وأمثالها من المصاديق الواضحة للأحكامالوضعيّة، مع عدم كونها من التسعة المذكورة، فحصرها في عدد خاصّ غيرصحيح، بل هي كلّما جعله الشارع واعتبره غير الأحكام التكليفيّة.
البحث حول الماهيّات المخترعة ومثل الولاية والقضاوة
وقد وقع النزاع بين المحقّق النائيني رحمهالله وسيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام «مدَّظلّه العالي» في مسألتين:
أ ـ الماهيّات المخترعة الشرعيّة، كالصلاة والصوم وأمثالهما.
ب ـ الولاية(3) والقضاوة ونحوهما.
فذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى عدم كونهما من الوضعيّات وسيّدنالاُستاذ«مدّ ظلّه» إلى كونهما منها.
كلام المحقّق النائيني قدسسره في ذلك
قال المحقّق النائيني رحمهالله : عُدَّ من الأحكام الوضعيّة مثل القضاوة والولاية، بلقيل: إنّ الماهيّات المخترعة الشرعيّة كلّها من الأحكام الوضعيّة، كالصوموالصلاة والحجّ ونحو ذلك.
وقد شُنِّعَ على القائل بذلك بأنّ الصوم والصلاة والحجّ ليست من مقولة
- (1) مثل أنّ جعل الجُدَي خلف المنكب الأيمن مثلاً علامة القبلة لبعض البلاد. منه مدّ ظلّه.
- (2) العزيمة والرخصة مرتبطتان بالترك، إلاّ أنّ الترك في الاُولى لازم، وفي الثانية جائز. منه مدّ ظلّه.
- (3) المراد بها جعل الولاية، لا الولاية التي تكون من الاعتقاديّات. منه مدّ ظلّه.
(صفحه118)
الحكم، فكيف تكون من الأحكام الوضعيّة؟!
ولكن يمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيّات المخترعة الشرعيّة من الأحكامالوضعيّة إنّما هو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء والشرائط والموانع(1)،وحيث كانت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة فيصحّ عدّجملة المركّب من الأحكام الوضعيّة، وليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعةمن الأحكام الوضعيّة كون الصلاة مثلاً بما هي هي حكماً وضعيّاً، فإنّ ذلكواضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم.
نعم، عدّ الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعيّة لا يخلو عن تعسّف،خصوصاً الولاية والقضاوة الخاصّة التي كان يتفضّل بهما الإمام عليهالسلام لبعضالصحابة، كولاية مالك الأشتر، فإنّ الولاية والقضاوة الخاصّة حكمها حكمالنيابة والوكالة لا ينبغي عدّها من الأحكام الوضعيّة، وإلاّ فبناءً على هذالتعميم كان ينبغي عدّ الإمامة والنبوّة أيضاً من الأحكام الوضعيّة،وهو كما ترى.
فالتحقيق أنّ الأحكام الوضعيّة ليست بتلك المثابة من الاقتصار، بحيثتختصّ بالثلاثة أو الخمسة أو التسعة المتقدّمة، ولا هي بهذه المثابة من التعميم،بحيث تشمل الماهيّات المخترعة والولاية والقضاوة.
بل ينبغي أن يُقال: إنّ المجعولات الشرعيّة التي هي من القضايا الكلّيّةالحقيقيّة على أنحاء ثلاثة: منها: ما يكون من الحكم التكليفي، ومنها: ما يكونمن الحكم الوضعي، ومنها: ما يكون من الماهيّات المخترعة، فتأمّل جيّداً(2).
إنتهى كلامه رحمهالله .
- (1) «عدم الموانع» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 4: 385.