(صفحه334)
ملاك الاتّحاد بين القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة
بقي الكلام في أنّ الملاك في الاتّحاد هل هو نظر العقل أو نظر العرف أو لسانالدليل الشرعي؟
وتظهر الثمرة في أنّ الملاك لو كان نظر العقل لا يجري الاستصحاب فيالأحكام أصلاً، لأنّه كلّما شكّ في بقاء الحكم كان لأجل الشكّ في بقاءموضوعه، ولا يتصوّر كون الموضوع محرزا بنظره ومع ذلك شكّ في بقاءحكمه، ألا ترى أنّه إذا شكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة يكون هذا الشكّناشيا عن تغيير خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع عقلاً، وهو أنّ موضوعالقضيّة المتيقّنة صلاة الجمعة في زمن حضور المعصوم وموضوع المشكوك فيهصلاة الجمعة في زمان الغيبة.
فلا يعقل أن يجري الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لو كان ملاك الاتّحادنظر العقل حتّى في باب النسخ، فإنّ العقل لا يحتمل النسخ إلاّ إذا تغيّر بعضخصوصيّات الموضوع، فلا يجري استصحاب عدم النسخ أيضاً لو كان الملاكفي الاتّحاد نظر العقل.
بل لا يجري على ذلك في بعض الشبهات الموضوعيّة أيضاً، كالشكّ في بقاءالوضوء الناشي عن عروض الخفقة أو الخفقتين الذي هو كان مورد الصحيحةالاُولى لزرارة، فإنّ موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها متغايران فيه عقلاً،لتغاير الإنسان الذي عرض عليه الخفقة والخفقتان والذي لا يكون كذلكبحسب نظر العقل، وكالشكّ في بقاء كرّيّة الماء، فإنّ الماء الذي علم بكرّيّته كانأكثر من الذي شكّ في بقاء كرّيّته، فلا تتّحد القضيّتان عقلاً.
فما يظهر من المحقّق الخراساني رحمهالله من جريان الاستصحاب في جميع موارد
ج6
الشبهة الموضوعيّة لو كان الملاك في الاتّحاد حكم العقل(1)، فاسد.
نعم، الحكم كما قال في المثال الذي ذكره، وهو استصحاب حياة زيد، فإنّالقضيّة المتيقّنة فيه «زيد حيّ» والموضوع في مثله ـ كما عرفت(2) ـ نفس زيدوماهيّته وهو كذلك موجود في زمان الشكّ حتّى بنظر العقل، فلا إشكال فياستصحاب حياته، لاتّحاد القضيّتين عقلاً.
فلا يصحّ القول بأنّ المناط في بقاء الموضوع نظر العقل، وإلاّ انسدّ بابالاستصحاب في الشبهات الحكميّة وبعض الشبهات الموضوعيّة.
هذا هو الفرق بين أخذ الموضوع من العقل وغيره.
والفرق بين أخذه من العرف وبين أخذه من لسان الدليل أنّ الشارع إذقال: «الماء المتغيّر نجس» وعلمنا بتغيّر ماء في أحد أوصافه الثلاثة، فصارنجسا بحسب هذا الدليل، فإن زال تغيّره من قبل نفسه فهل يجري استصحابالنجاسة أم لا؟ تظهر ثمرة الفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه منلسان الدليل في هذا المثال، فإنّ العرف بعد الشكّ في بقاء النجاسة لأجل زوالالتغيّر من قبل نفسه يحكم ببقاء الموضوع ويقول: «هذا الماء كان نجسا والآننشكّ في بقاء نجاسته» فيجري الاستصحاب، بخلاف ما لو كان الملاك لسانالدليل، فإنّ النجاسة حملت في لسان الدليل على الماء المتغيّر، وبعد زواله ليبقى هذا الموضوع، فلا مجال لاستصحاب النجاسة.
وهذا هو الفرق بين كون الملاك في اتّحاد القضيّتين نظر العرف أو لسانالدليل.
إشكال ودفع
(صفحه336)
هاهنا شبهة: وهي أنّا ذكرنا غير مرّة أنّ المتّبع في مفاد الأدلّة الشرعيّة هوفهم العرف، فكيف يتحقّق الفرق بين لسان الدليل ونظر العرف في بقاءالموضوع؟!
كلام صاحب الكفاية في الجواب عن الشبهة
وأجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عنها في الكفاية بأنّ الشارع إذا قال: «العنبإذا غلى يحرم» ثمّ شككنا في حرمة الزبيب على تقدير الغليان، كان موضوعالدليل الشرعي بحسب فهم العرف هو خصوص العنب، ولكنّهم يتخيّلونبحسب ارتكازهم ومناسبات الحكم والموضوع أنّ الموضوع أعمّ من العنب،لكن لا بحيث يصير ذلك الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عمّهو ظاهره المتفاهم عرفا، وهو ترتّب الحرمة على خصوص عنوان العنب.
وبعبارة اُخرى: إنّ العرف يرون أنّ موضوع الحرمة هو العنب، لكنّهم معذلك يتخيّلون بحسب ارتكازهم أنّ الموضوع أعمّ منه ومن الزبيب وأنّ العنبيّةوالزبيبيّة من حالاته المتبادلة، إلاّ أنّهم مع ذلك لا يجترؤون أن يحكموا بشمولنفس الدليل الشرعي للزبيب، لكنّهم يثبتون حكمه بالاستصحاب، لأنّالزبيب لو لم يكن محكوما بما حكم به العنب يكون عندهم من ارتفاع الحكمعن موضوعه ويصدق نقض اليقين بالشكّ(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله .
نقد كلام صاحب الكفاية في ردّ الشبهة
وفيه: أنّ الارتكازات والتخيّلات العرفيّة إن كانت بحيث توجب صرف
ج6
الدليل عمّا هو ظاهره عرفا وتوجب انعقاد ظهور آخر له حتّى كان قوله:«العنب إذا غلى يحرم» بمعنى «العنب والزبيب إذا غلى يحرم» فالمتّبع في موضوعالدليل هذا الظهور الثاني لا الظهور البدوي المتزلزل، فلم يتحقّق فرق بين أخذالموضوع من العرف وبين أخذه من لسان الدليل، وإن لم تكن بهذه المثابة(1)فلا وجه للاستصحاب، لعدم فائدة بقاء الموضوع التخيّلي فيه.
فلم يحصل الفرق أيضاً بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من لسانالدليل.
فما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله في الفرق بينهما غير تامّ.
ولأجل هذا الإشكال التزم المحقّق النائيني رحمهالله بعدم الفرق بينهما، وقال بكونالفرق بينهما بدويّا يزول بعد الدقّة العرفيّة، فلا يعتمد عليه(2).
كلام الإمام«مدّ ظلّه» في المسألة
والحقّ ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» من أنّ الفرق بين أخذالموضوع من لسان الدليل الشرعي وبين أخذه من العرف أنّ الموضوع فيقوله: «العنب إذا غلى يحرم» بحسب فهم العرف هو خصوص العنب ولا يرتبطبالزبيب أصلاً، والشاهد على ذلك أنّك لو اشتريت العنب من زيد مثلاً لا يجوزله أن يدفع إليك الزبيب في مقام تسليم المبيع، فمفهوم العنب عند العرف ليشمل الزبيب ولا يرتبط به أصلاً(3)، لكنّ العنب الخارجي إذا يبس وصارزبيبا يشير العرف إليه ويقولون: هذا الموجود الخارجي كان قبل يبوسته إذ
- (1) وهذا الشقّ الثاني هو ظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمهالله . م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 4: 586.
- (3) بخلاف ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله ، فإنّه قال بكونهما مرتبطين والزبيب يقرب من العنب المأخوذموضوعا في قوله: «العنب إذا غلى يحرم» إلاّ أنّ هذا القرب لا يكون بمثابة يدخل في موضوعه ويشمله،فلابدّ من استصحاب حرمته. منه مدّ ظلّه.
(صفحه338)
غلى يحرم، والآن نشكّ في أنّه إذا غلى يحرم أم لا؟ فيستصحب، وذلك لأنّالعنب والزبيب مع كونهما متغايرين عندهم مفهوما تكون ماهيّتهما واحدةً،والعنبيّة والزبيبيّة وصفان لهذه الماهيّة الواحدة.
وبالجملة: إنّ العنب قبل أن يبس وصار زبيبا يكون إذا غلى حراما عندالعرف بمقتضى الدليل الشرعي، وهو «العنب إذا غلى يحرم» وبعد صيرورتهزبيبا لا يشمله الدليل، لكن يشمله أخبار الاستصحاب لو كان الملاك في اتّحادالقضيّتين نظر العرف، ولا تشمله لو كان الملاك لسان الدليل، فإنّ الموضوع فيالدليل هو العنب لا الزبيب، وهما متغايران مفهوما عند العرف.
وكذلك الأمر في قوله: «الماء المتغيّر نجس» فإنّا إذا سألنا العرف عن هذالدليل هل هو يشمل الماء الذي لم يتغيّر أصلاً أو تغيّر ثمّ زال تغيّره من قبلنفسه؟ يقولون: لا، لكنّهم مع ذلك يشيرون إلى الماء الخارجي بعد زوال تغيّرهمن قبل نفسه ويقولون: هذا الماء كان نجسا والآن نشكّ في بقاء نجاسته،فتتّحد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة في هذا المثال أيضاً بحسب نظر العرف لبحسب لسان الدليل(1).
ملاك الاتّحاد
إذا عرفت هذا فالحقّ أنّ الملاك في الاتّحاد نظر العرف لا العقل ولا لسانالدليل، لأنّ المتّبع في فهم الأخبار هو نظر العرف، ومن جملتها قوله: «لا تنقضاليقين بالشكّ» ففي كلّ مورد حكم العرف باتّحاد القضيّتين وصدق عنواننقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن الحالة السابقة فلا بدّ من الاستصحاببمقتضى أخبار الباب.
- (1) الرسائل، مبحث الاستصحاب: 224.