وأمّا النبوّة فلو قلنا بكونها ناشئةً من كمال النفس قهرا بلا جعل ـ كما ذهبإليه المحقّق الخراساني رحمهالله (1) ـ فلا وجه لاستصحابها، لأنّها على هذا من الصفاتالخارجيّة التكوينيّة، فلا تكون حكما شرعيّا ولا يترتّب عليها أيضاً أثرشرعي مهمّ ولا يرتبط بالشارع من وجه آخر، فلا مجال لاستصحابها.
وهي أنّ الكتابي إن أراد استصحاب نبوّة موسى أو عيسى لتشخيصوظيفة نفسه يرد عليه أنّه إن لم يكن شاكّا فيها فلا مجال للاستصحاب، وإنكان شاكّا فيها فلا محالة يكون منشأ شكّه احتمال صدق نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، فلابدّ له منالفحص، لعدم جريان الاُصول العمليّة في الأحكام قبله، وإن كان جاريا فيالموضوعات، فأهمّيّة النبوّة لا تكون بأقلّ من أهمّيّة الأحكام الفرعيّة، فإذكان الفحص لازما قبل جريان الاُصول فيها ففي النبوّة بطريق أولى، ونحننقطع بأنّه لو بحث عن دين الإسلام لقطع بحقّانيّته وارتفاع النبوّة السابقة، ول
يبقى مجال لاستصحابها. هذا أوّلاً.
وثانيا: لا يكون الاستصحاب حجّةً ذاتا، فلابدّ له من دليل على اعتباره،مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» وليس في الأديان السابقة دليل عليه.
سلّمنا وجود الدليل عليه فيها، لكنّ النبوّة من الاُمور التي لابدّ من القطعبها، فلا يكفي استصحابها، على أنّ الشكّ في بقاء دينه يستلزم الشكّ في اعتبارهذا الدليل أيضاً.
سلّمنا كفاية الظنّ لإثبات النبوّة، لكنّ الاستصحاب لا يفيد الظنّ بالبقاءأوّلاً، ولا دليل على اعتبار الظنّ الحاصل منه ثانيا، والأصل العقلائي حرمةالعمل بالمظنّة إلاّ ما ثبت حجّيّته كما حقّق في محلّه.
فلا يمكن للكتابي استصحاب نبوّة النبيّ السابق لتشخيص وظيفته.
وإن أراد استصحابها لإلزام المسلمين عليها(1)، ففيه أوّلاً: أنّ المسلم ليكون شاكّا في بقاء نبوّة النبيّ السابق، بل يكون قاطعا بارتفاعها، وإلاّ فلميكن مسلما، فلا مجال لتحميل الاستصحاب عليه.
وثانيا: أنّ التمسّك بقوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لإثبات بقاء النبوّةالسابقة أمر يلزم من وجوده عدمه، حيث إنّ الإقرار ببقائها يستلزم عدمتحقّق الإسلام، ولازمه عدم حجّيّة «لا تنقض اليقين بالشكّ» رأسا، وما يلزممن وجوده عدمه فهو باطل.
عدم ثبوت نبوّة النبيّ السابق إلاّ بإخبار القرآن
وثالثا: جعل النبوّة لموسى وعيسى عليهماالسلام لا يثبت عندنا إلاّ من طريق إخبار
- (1) كأنّه يقول للمسلمين: لابدّ لكم بمقتضى ما ورد في شريعتكم من «لا تنقض اليقين بالشكّ» منالاعتراف بنبوّة النبيّ السابق. منه مدّ ظلّه.
ج6
القرآن بها، لعدم تحقّق التواتر فيها في جميع الطبقات، وتحريف التوراة والإنجيلقطعا، ألا ترى أنّ فيهما نسبة الزنا وشرب الخمر إلى الأنبياء العظام؟! ونحوذلك من الأباطيل الواضحة.
سلّمنا عدم تحريفهما، لكنّهما لا يكونان معجزة، فإنّ معجزة موسىوعيسى عليهماالسلام أشياء اُخر غير التوراة والإنجيل، فالطريق إلى العلم بنبوّتهممنحصر بالقرآن الذي لم يحرّف مع كونه معجزة.
ولا يقول بتحريفه إلاّ من في قلبه مرض أو من ليس له اطّلاع عليه.
وبالجملة: لابدّ في الاستصحاب من اليقين بالحدوث، وطريقه في المقاممنحصر في القرآن، والتمسّك به لاستصحاب النبوّة السابقة أمر يلزم أيضاً منوجوده عدمه.
فلا يتمكّن الكتابي أيضاً من استصحاب نبوّة النبيّ السابق لإلزام المسلمينعليها.
ولعلّ المراد بقول الرضا عليهالسلام : «إنّا نؤمن بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّةنبيّنا صلىاللهعليهوآله وكافر بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك»(1) هذا الجواب الأخير المتقدّم منّا،أي طريق العلم بنبوّتهما إنّما هو القرآن.
وعلى هذا فلا وجه لإيراد الشيخ الأعظم الأنصاري رحمهالله عليه بأنّ هذالجواب بظاهره مخدوش، لأنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم ليس كلّيّحتّى يصحّ الجواب المذكور، بل شخص واحد وجزئي حقيقي اعترفالمسلمون وأهل الكتاب بنبوّته، فعلى المسلمين إثبات نسخها(2).
نعم، ما احتملناه في معنى الحديث خلاف ظاهر كلامه عليهالسلام .
- (1) هذا مضمون كلامه عليهالسلام لا عينه. راجع عيون أخبار الرضا 1: 157، والاحتجاج 2: 417. م ح ـ ى.
- (2) فرائد الاُصول 3: 261.
(صفحه306)