(صفحه490)
البيّن رشده على الخبر المجمع عليه.
إن قلت: لو كان المراد بـ «المجمع عليه» الخبر الذي أجمع الأصحاب علىنقله وليس المراد به الشهرة فلم جعل الإمام عليهالسلام في مقابله الخبر الشاذّ ووصفهبأنّه ليس بمشهور عند الأصحاب؟
قلت: المراد بالشهرة التي فرض كون الخبر الشاذّ فاقدا لها معناها اللغوي،أي الوضوح، لا معناه الاصطلاحي، فالخبر الذي أجمع الأصحاب على نقلههو الواضح، وغيره هو الشاذّ الذي ليس بواضح.
ولا ينافي ما ذكرنا فرض الراوي الشهرة في كلتا الروايتين بعد أمره عليهالسلام بالأخذ بالمجمع عليه، فإنّ الشهرة كما قلنا بمعنى الوضوح، ومنه قولهم: «شهرفلان سيفه» و«سيف شاهر» فمعنى كون الروايتين مشهورتين أنّهما بحيث قدرواهما جميع الأصحاب وعلم صدورهما عن المعصوم عليهالسلام .
ولا منافاة بين القطع بصدور الخبرين وبين تعارضهما، لإمكان صدورأحدهما للتقيّة وأمثالها(1).
هذا حاصل كلام بعض الأعلام«مدّ ظلّه» في المقام مع توضيح منّا.
نقد ما أفاده المحقّق الخوئي في المسألة
ويرد عليه أنّ آخر كلامه يبطل سائر فقراته، لأنّه فرض في آخر كلامهكون الروايتين المتعارضتين مجمعا عليهما ومعلوما صدورهما عن المعصوم عليهالسلام إلاّ أنّ صدور أحدهما لغير بيان حكم اللّه، فلا ينفى احتمال الريب عن الخبرالمجمع عليه المقطوع الصدور ولا يكون بيّن الرشد، فلا يصحّ الاستدلاللإثبات كون «المجمع عليه» بمعنى الخبر الذي أجمع الأصحاب على صدوره
- (1) مصباح الاُصول 3: 412.
ج6
بقوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» أو بقوله عليهالسلام : «إنّما الاُمور ثلاثة: أمربيّن رشده فيتّبع إلخ».
إن قلت: قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» معناه «لا ريب فيصدوره» لا في وجوب العمل على طبقه.
قلت: كلاّ، فإنّه عليهالسلام أمر بوجوب الأخذ بالمجمع عليه وعلّله بأنّه لا ريبفيه، فيكون معناه «لا ريب في وجوب الأخذ به والعمل على طبقه».
وبالجملة: لا يمكن أن يكون كلّ من الخبرين المتعارضين أمرا بيّنا رشدهومن مصاديق قوله عليهالسلام : «لا ريب فيه».
بيان ما هو الحقّ في معنى «المجمع عليه»
فـ «المجمع عليه» يكون بمعنى الشهرة في الفتوى كما قال به سيّدنا الاُستاذالأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي»(1).
لا يقال: كيف يمكن أن يتحقّق في كلّ من الخبرين المتعارضين الشهرةالفتوائيّة؟
فإنّه يقال: إنّ الشهرة ـ كما تقدّم في كلام بعض الأعلام ـ بمعنى الوضوح، لبمعنى ذهاب الأكثر إليه، ولا إشكال في إمكان أن يكون في مسألة قولانمختلفان مشهوران بهذا المعنى، كما إذا ذهب نصف العلماء إلى نجاسة ماء البئربوقوع الميتة مثلاً فيه ونصفهم إلى عدم نجاسته به.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» حول «المجمع عليه»
فالحقّ ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ من أنّ «المجمع عليه» يكون بمعنى
- (1) راجع الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 70.
(صفحه492)
المشهور، وأنّ المراد بالشهرة: الشهرة الفتوائيّة، لا الروائيّة.
ولكنّه«مدّ ظلّه» ذهب بعد ذلك إلى أنّ الشهرة الواردة في الرواية ليست منمرجّحات حجّة على حجّة اُخرى، بل هي ملاك تمييز الحجّة عن اللاحجّة،فمقتضى المقبولة أنّ الخبر المشهور حجّة والخبر الشاذّ المعارض له باطل رأسا.
واستدلّ عليه بقوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بدعوى أنّه إذا كانالشهرة الفتوائيّة موافقةً لأحد الخبرين المتعارضين كان مضمون هذا الخبر ممّلا ريب فيه وحكم اللّه الواقعي، فكان معارضه ممّا لا ريب في بطلانه، فالخبرالموافق للشهرة يكون من مصاديق بيّن الرشد والشاذّ المعارض له منمصاديق بيّن الغيّ في قوله عليهالسلام : «إنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتّبع، وأمربيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله» ويكون الخبرالموافق للشهرة من مصاديق الحلال البيّن والشاذّ المعارض له من مصاديقالحرام البيّن في قوله صلىاللهعليهوآله : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك»(1).
هذا حاصل ما استدلّ به الإمام«مدّ ظلّه» لما ذهب إليه في المقام.
نقد نظريّة الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في مفاد المقبولة
ويرد عليه أوّلاً: أنّ المراد من التعليل ـ أعني قوله عليهالسلام : «إنّ المجمع عليه لريب فيه» ـ ليس جعل التعبّد بذلك، بل تنبّه بأمر عقلائي ارتكازي كما قال بهسيّدنا الاُستاذ أيضاً، فنفي الريب عن الخبر المشهور، معناه: نفيه حقيقةً، لتعبّدا، فلا محالة كان المراد نفي الريب عنه بالإضافة إلى الخبر الشاذّ، لا مطلقا،لتحقّق الريب واقعا في الخبر المشهور أيضاً، لاحتمال كون حكم اللّه مطابقللخبر الشاذّ، إلاّ أنّ الريب المتحقّق فيه بالنسبة إلى الخبر الشاذّ قليل بحيث ل
- (1) الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 71.
ج6
يعتدّ به العقلاء ويرونه بالإضافة إلى الخبر الشاذّ ممّا لا ريب فيه.
وعلى هذا فكان بيّن الرشد أيضاً بالإضافة إلى الخبر الشاذّ، لا مطلقا.
وثانيا: تثليث الاُمور دليل على أنّ له عليهالسلام عناية بالأمر الثالث منها، فالخبرالمشهور وإن كان داخلاً في «بيّن الرشد» إلاّ أنّ الخبر الشاذّ لا يكون داخلاً في«بيّن الغيّ» بل في «المشكل الذي يردّ علمه إلى اللّه وإلى الرسول» وإلاّ لقال:«إنّما الاُمور اثنان: بيّن رشده فيتّبع، وبيّن غيّه فيجتنب» إذ لا حاجة إلى القسمالثالث، سيّما مع تحقّق عناية خاصّة في ذيل تثليث النبيّ صلىاللهعليهوآله بالأمر الثالث، وهوقوله صلىاللهعليهوآله : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات ارتكبالمحرّمات وهلك من حيث لا يعلم» فهذا شاهد على كون الخبر الشاذّ داخلفي «المشكل الذي يردّ علمه إلى اللّه وإلى الرسول» في تثليث الإمام عليهالسلام وفي«الشبهات بين ذلك» في تثليث النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وثالثا: لو كان المراد بنفي الريب عن الخبر المشهور نفيه مطلقا لم يعقل كونالخبرين المتعارضين كليهما مشهورين كما فرضه ابن حنظلة وقرّره الإمام عليهالسلام ،لعدم إمكان أن يكون مضمون هذا الخبر المشهور حكم اللّه الواقعي وكذمضمون ذاك الخبر المشهور المعارض له، فلا محالة يكون نفي الريب عن الخبرالمشهور وكذا كونه بيّن الرشد إنّما هما إذا قيس إلى الخبر الشاذّ المعارض له، لمطلقاً حتّى يعمّ ما إذا كانت الشهرة على طبق كليهما.
نعم، هذا مستلزم لأن يطلق قوله عليهالسلام : «أمر بيّن رشده» على معنيين:أحدهما: أمر بيّن رشده مطلقا، والثاني: أمر بيّن رشده بالإضافة إلى أمرآخر، وهو خلاف ظاهره.
فإنّ ظاهره هو المعنى الأوّل فقط، إلاّ أنّه لا إشكال في رفع اليد عن هذالظهور لأجل القرائن الثلاثة التي ذكرناها.
(صفحه494)
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ الشهرة الفتوائيّة من مرجّحات بابالرواية.
إن قلت: إنّها أيضاً من مرجّحات باب الحكم والقضاء، لقوله عليهالسلام : «ينظرإلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابكفيؤخذ به من حكمنا» فإنّه دالّ على وجوب الأخذ بالحكم الذي كان مدركهالخبر المشهور، ولا دلالة فيه على وجوب الأخذ بنفس الخبر المشهور.
قلت: كلاّ، فإنّه عليهالسلام بصدد بيان ترجيح الخبر بالشهرة، وذكر الحكم إنّما هومن باب ذكر النتيجة في مورد الرواية(1)، فكأنّه قال: يجب الأخذ بالخبرالمشهور، فالحكم الذي مدركه كذلك يجب الأخذ به.
فمقتضى المقبولة وجوب الأخذ بالخبر المشهور من بين المتعارضين، سواءاُخذ مدركا للحكم أو للفتوى.
فأوّل المرجّحات المستفادة من المقبولة: هو الشهرة الفتوائيّة عندنا(2).
وثانيها: هو موافقة الكتاب والسنّة.
وثالثها: هو مخالفة العامّة.
لا يقال: إنّ الترجيح بالأخيرين إنّما هو فيما إذا كان الخبران كلاهممشهورين، لوقوعه عقيب فرض ابن حنظلة إيّاهما كذلك، فلا يمكن الترجيحبهما فيما إذا كان الخبران كلاهما على خلاف الشهرة.
فإنّه يقال: وإن فرضهما ابن حنظلة مشهورين، إلاّ أنّ الترجيح بموافقةالكتاب ومخالفة العامّة لم يرد لأجل كونهما مشهورين، بل لأجل عدم كونالشهرة مرجّحة، فكلّما لم نتمكّن من الترجيح بالشهرة ـ سواء كان لكونهم
- (1) أي في مورد المقبولة، فإنّ موردها هو الحكم والقضاء كما عرفت. م ح ـ ى.
- (2) وأمّا عند الإمام الخميني«مدّ ظلّه» فأوّلها موافقة الكتاب، لكون الشهرة عنده مما يتميّز به الحجّة عناللاحجّة. م ح ـ ى.