نعم، سيجيء البحث في أنّ التخيير في الأخذ بأحد الخبرين المتكافئين هلهو مختصّ بالمجتهد أو يعمّ المقلّد أيضاً.
ثمّ إنّ هاهنا إشكالاً، وهو أنّه كيف يحكم العقل والعقلاء بتساقط المتكافئينوالأخبار بالتخيير؟
ويشهد عليه أنّ ظاهر بعض أدلّة التخيير ذلك، فإنّ مفاده هو التوسعة فيالأخذ بأحدهما في صورة عدم العلم بالواقع(1).
لكن استشكل عليه بأنّ التخيير لو كان أصلاً عمليّا لما كانت مثبتات الخبرالمختار حجّة، مع أنّ القائلين بالتخيير يلتزمون بحجّيّتها كحجّيّة مدلولهالمطابقي كما لو لم يكن له معارض أصلاً، وهذا شاهد على عدم كون التخيير فيالمقام من قبيل الاُصول العمليّة.
ب ـ أنّ الشارع جعل الطريقيّة في صورة التعارض زائدةً على الطريقيّة التيكانت لكلّ خبر ثقة، سواء كان له معارض أم لا.
وفيه أوّلاً: أنّ الطريقيّة أمر ذاتي ولو كان الطريق ظنّيّا، فإنّالطريقيّة والكاشفيّة عبارة عن حصول الظنّ بالواقع، ولا يمكن جعل الظنّللدليل الظنّي ولا سلبه عنه، فلا يمكن جعل الطريقيّة والكاشفيّة له،ولا سلبها عنه.
نعم، يمكن جعل الحجّيّة له وسلبها عنه، ولهذا يقال: إنّ الأمارات والطرقعلى قسمين: معتبرة وغير معتبرة.
وثانيا: إن اُريد بجعل الطريقيّة في صورة التعارض جعلها لكلا المتعارضينفهو مستحيل، وإلاّ فلم يحكم العقل والعقلاء بتساقطهما، بل حكما بوجوبالأخذ بكليهما.
وإن اُريد جعلها لأحدهما المعيّن فهو تحكّم، لعدم تعيين علامة بها يعرفذلك المعيّن، على أنّه ينافي القول بالتخيير.
وإن اُريد جعلها لواحد غير معيّن منهما فلا واقعيّة له، فإنّ الموجود واقع
- (1) مثل ما روي عن الحسن بن الجهم عن الرضا عليهالسلام قال: قلت له: ...يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثينمختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت». وسائل الشيعة 27: 121،كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 40. م ح ـ ى.
(صفحه466)
هذا الخبر وذاك الخبر، وليس عندنا واحد غير معيّن من الخبرين.
كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في الجواب عن الإشكال
ج ـ قال سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه العالي» في حلّ الإشكال محاصله: ليس الحكم بالتخيير حكما جديدا بنحو الأصل العملي أو جعلالطريقيّة الثانويّة، بل هو الحكم ببقاء الحجّيّة والطريقيّة الذاتيّة التي كانتللمتعارضين قبل التعارض، وذلك لأنّ بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة عندعدم التعارض، وبنائهم على التساقط عند التعارض، والشارع لم يردع عنبنائهم الأوّل، فهو دليل على حجّيّة خبر الثقة، وردع عن بنائهم الثاني فيضمن أخبار العلاج، فيكون خبر الثقة طريقا معتبرا عند العرف والشرع فيمإذا لم يكن له معارض، وعند الشرع فقط لو كان له معارض، وإن لم يكنحينئذٍ طريقا عند العرف، كما أنّه لو كان لأحد المتعارضين مزيّة معتبرة شرعلوجب الأخذ به ـ بمقتضى أخبار الترجيح ـ وإن لم تكن مزيّة عند العرف.
فكلّ خبر ثقة حجّة شرعا وطريق ذاتي عنده، سواء كان له معارض أملا، إلاّ أنّه حيث لم يمكن الأخذ بكليهما عند التعارض حكم بالتخيير(1).
هذا حاصل ما أفاده سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام«مدّ ظلّه» في المقام.
نقد كلام الإمام الخميني«مدّ ظلّه» في حلّ الإشكال
وفيه: أنّه متين لو كان الحاكم بتساقط المتكافئين العرف فقط، فإنّ الشرعكثيرا ما ردع عن سيرة العقلاء، إلاّ أنّ العقل أيضاً يحكم بالتساقط، ولا يمكنللشارع أن يحكم بخلاف حكم العقل القطعي، وإلاّ اضطرب كثير
- (1) الرسائل، مبحث التعادل والترجيح: 58.