ج6
بالشكّ ليست تكليفا نفسيّا مشتملاً على الملاك، بل هي تكليف لأجل التحفّظعلى الواقع، لا بمعنى كونه طريقا إليه، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاكدرك الواقع، فاستصحاب الوجوب والحرمة لا يوجب حدوث ملاك فيالمستصحب، بل يكون حجّة على الواقع لو أصاب، وإلاّ يكون التخلّف تجرّيلا غير، فالنهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يكون إلاّ بملاك التحفّظ على الواقع،وهذا الملاك ليس بموجود في الاستصحابين المتعارضين، للعلم بانتقاض الحالةالسابقة في أحدهما، أو لقيام دليل خارجي على عدم اجتماعهما، فملاكالاستصحاب لا يكون موجودا في كليهما، بخلاف باب التزاحم، فإنّك قدعرفت وجود الملاك في إنقاذ كلا الغريقين، فقياس المقام به مع الفارق.
الثاني: أنّ المحذور من جريان الاستصحاب في صورة التعارض إنّما هوناشٍ من إطلاق أدلّته، فلابدّ من رفع اليد منه، لا من أصلها، كما في بابالتزاحم، فإنّ إطلاق قوله: «أنقذ الغريق» يقتضي وجوب إنقاذ كلّ منالغريقين مطلقا، سواء أنقذ الآخر أم لم ينقذه، وهذا يستلزم التكليف بما ليطاق، لعدم القدرة على إنقاذ كليهما فرضا، فلابدّ من تقييد هذا الإطلاق،فيصير مفاده وجوب إنقاذ زيد مثلاً بشرط عدم إنقاذ عمرو، وبالعكس،فيكون واجبا تخييريّا، كسائر الواجبات التخييريّة، إلاّ أنّ الحاكم بالتخييرهاهنا هو العقل وهناك هو الشرع.
ومسألة تعارض الاستصحابين أو الاستصحابات أيضاً نظير بابالتزاحم، فإنّ إطلاق قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يقتضي المنع من نقضاليقين بالشكّ في هذا الإناء مثلاً مطلقا، سواء نقض في الآخر أم لا، وكذلكبالنسبة إلى الإناء الآخر، فيجري استصحاب طهارة كلّ منهما بمقتضى هذالإطلاق، وحيث إنّه مستلزم لمخالفة قطعيّة عمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال
(صفحه366)
ـ وهو وجوب الاجتناب عن النجس ـ فلابدّ من رفع اليد من هذا الإطلاق،فيصير مفاده بعد التقييد حرمة نقض اليقين بالشكّ في هذا الإناء بشرطالنقض في الآخر، وبالعكس، كما في باب التزاحم.
وبالجملة: إنّ المانع من جريان الاستصحاب في صورة التعارض هوإطلاق دليله، لا أصله، فلا ملزم لطرحه بالكلّيّة والقول بالتساقط، بل يكفيرفع اليد من إطلاقه، وهو معنى التخيير.
وفيه أوّلاً: أنّ ما نحن فيه من موارد العلم الإجمالي، لأنّا نعلم بانتقاضالحالة السابقة في أحد المستصحبين إجمالاً، ويمكن من بداية الأمر دعوى عدمتحقّق الإطلاق في دليل الاستصحاب بحيث يعمّ أطراف العلم الإجمالي ـ لعدمإحراز مقدّمات الحكمة هاهنا التي منها كون المتكلّم في مقام البيان ـ سيّما إذكان شموله لها مستلزما للمخالفة القطعيّة، بخلاف باب التزاحم الذي ليس منموارد العلم الإجمالي، فلا يصحّ قياس المقام به.
وثانيا: أنّا لا نسلّم أن يكون التخيير في باب التزاحم نظير التخييرالشرعي من جميع الجهات، غير أنّ الفرق بينهما في عقليّة التخيير وشرعيّتهفقط، لأنّ المكلّف إن عصى في الواجب التخييري لا يستحقّ إلاّ عقوبةواحدة، بخلاف باب التزاحم، فإنّه لو لم ينقذ زيدا ولا عمرا لاستحقّ عقابين.
إن قلت: كيف يستحقّ عقابين مع عدم قدرته على إنقاذ كليهما؟!
قلت: قوله: «أنقذ الغريق» يشمل كلاًّ منهما، فهو مكلّف بإنقاذ كليهما، إلاّ أنّهإذا صرف قدرته في إنقاذ أحدهما كان في مخالفة التكليف بالنسبة إلى الآخرمعذورا عقلاً، وأمّا إن لم يصرف قدرته أصلاً فلا عذر له في المخالفة، فإنّالمولى يمكن أن يحتجّ عليه بأنّك كنت مكلّفا بإنقاذ زيد ولا عذر لك فيالمخالفة، وأيضاً كنت مكلّفا بإنقاذ عمرو ولا عذر لك في المخالفة، وذلك لأنّك لم
ج6
تصرف قدرتك في أحدهما حتّى تكون عاجزا بالنسبة إلى الآخر، فتكونمعذورا.
بخلاف الواجب التخييري، فإنّ من أفطر في شهر رمضان يجب عليه عتقرقبة أو إطعام ستّين مسكينا أو صيام شهرين متتابعين تخييرا بينها، وإن تركالجميع لا يستحقّ إلاّ عقوبة واحدة.
فلا يمكن استنتاج الوجوب التخييري من دليل الاستصحاب في صورةالتعارض قياسا على باب التزاحم، لمنع الوجوب التخييري في المقيس عليه.
فالمحذور في جريان الاستصحاب في صورة التعارض وكذا في باب التزاحمهو أصل دليلهما، لا إطلاقه.
فالحاصل: أنّ مقتضى القاعدة في الاستصحابين المتعارضين هو التساقط.هذا كلّه حال الاستصحاب مع الأمارات والاُصول.
البحث حول تعارض الاستصحاب مع بعض القواعد الفقهيّة
بقي الكلام في حاله مع بعض قواعد اُخر فقهيّة، كقاعدة اليد والتجاوزوالفراغ وأصالة الصحّة في عمل الغير والقرعة.في تعارض الاستصحاب مع بعض القواعد الفقهيّة
والشيخ الأعظم بسط الكلام في هذه القواعد(1)، لكنّها حيث كانت قواعدفقهيّة فمحلّ التفصيل فيها هو الفقه، فلابدّ هاهنا من الاكتفاء بالبحث عنتعارضها مع الاستصحاب تبعا للمحقّق الخراساني رحمهالله (2).
تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد
- (1) فرائد الاُصول 3: 320 ـ 386.
(صفحه368)
فنقول: لا إشكال في تقدّم قاعدة اليد على الاستصحاب، سواء قلنا بكونهأمارة ـ كما هو الظاهر ـ أو أصلاً عقلائيّا أمضاه الشارع.
أمّا على الأوّل فواضح، لما عرفت من ورود الأمارات على الاُصول.
وأمّا على الثاني فلأنّ النسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه، إلاّ أنّه لابدّهاهنا من تخصيص الاستصحاب بقاعدة اليد لوجهين:
الأوّل: قيام الإجماع على العمل بقاعدة اليد مطلقاً، حتّى فيما يعارضهالاستصحاب.
الثاني: أنّه لو خرج مورد الاجتماع عن قاعدة اليد ودخل تحتالاستصحاب لما بقي تحتها إلاّ موارد نادرة جدّا، لجريان استصحاب عدمالملكيّة في أكثر موارد اليد، فكلّ شيء وجدناه تحت يد شخص وشككنا فيملكيّته له يجري فيه استصحاب عدمها إلاّ في موارد قليلة(1) لا يعقل تشريعهذه القاعدة لأجلها، سيّما أنّ تشريعها علّل في الأخبار بأنّه «لو لا ذلك لما قامللمسلمين سوق»(2) فإنّ هذا التعليل يرشدنا إلى تقدّمها على الاستصحاب فيموارد الاجتماع، إذ لو عكس الأمر لما قام أيضاً للمسلمين سوق.
وأمّا الاستصحاب فله موارد كثيرة غير موارد اليد، فإنّ قاعدة اليد تختصّبالشكّ في الملكيّة من الشبهات الموضوعيّة فيما إذا كان المال تحت يد شخص،فيختصّ الاستصحاب بجميع الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة غير
- (1) مثل أن يكون شيء تحت يد شخص وعلمنا ملكيّته سابقا وعدم ملكيّته كذلك، لكنّا شككنا في أنّالملكيّة كانت متقدّمة على عدمها أو بالعكس، فيجري الاستصحاب في كليهما ويتساقطان بالتعارضوتبقى قاعدة اليد سليمة عن المعارض، ومثل أن يكون تحت يده ولم نعلم بعدم ملكيّته له سابقا، بلاحتملنا كونه ملكا له من أوّل وجوده، لاحتمال كونه بنفسه مولّدا له، مثل البقول، فلا يجري هاهناستصحاب عدم ملكيّته بناءً على ما اخترناه من عدم جريانه في القضايا السالبة بانتفاء الموضوع.منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 27: 292، كتاب القضاء، الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 2.
ج6
الملكيّة، كالشكّ في بقاء الخمريّة والطهارة ونحوهما والشبهات الملكيّة التيلم تثبت فيها يد على المال، كالشكّ في كون شيء مطروح على الأرض ملكلزيد مثلاً، فلا محذور في تقدّم اليد على الاستصحاب في مورد الاجتماع،بخلاف العكس.
تعارض الاستصحاب مع قاعدة التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة
وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ(1) وأصالة الصحّة في عمل الغير فكلّ منهأخصّ من الاستصحاب، فلابدّ من تخصيصه بها، سواء قلنا بكونها منالأمارات، كما هو الظاهر من قوله عليهالسلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حينيشكّ»(2) أو من الاُصول العقلائيّة المعتبرة شرعا أيضاً.
توضيح ذلك: أنّ مورد قاعدة التجاوز إنّما هو الشكّ حين الاشتغال بالعملفي إتيان شيء منه، كالشكّ في إتيان ركوع الركعة الثالثة حين الاشتغالبالرابعة، ومورد قاعدة الفراغ إنّما هو الشكّ في إتيان شيء من العمل بعد الفراغمنه، ولا ريب في جريان استصحاب عدم الإتيان به في كليهما، ومورد أصالةالصحّة في عمل الغير، أو في عمل نفسه بعد مضيّ زمان إنّما هو الشكّ في صحّةمعاملة صدرت من الغير أو من نفسه، والشكّ فيها ناشٍ عن الشكّ في إتيانشرط من شروط المعاملة(3)، ولا ريب في جريان استصحاب عدمه، وهويقتضي فسادها.
فالاستصحاب أعمّ من هذه القواعد الثلاث، فلابدّ من تخصيصه بها.
وبعبارة اُخرى: لو قدّم الاستصحاب عليها للزم لغويّتها رأسا، بخلاف
- (1) على تقدير كونه قاعدة مستقلّة غير قاعدة التجاوز. منه مدّ ظلّه.
- (2) وسائل الشيعة 1: 471، كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب الوضوء، الحديث 7.
- (3) كالبيع والنكاح وغيرهما من المعاملات. م ح ـ ى.